تهدئة في «خبراء القيادة» وخيارات مفتوحة في «الرئاسة»

ريبورتاج 2024/05/26
...

• جواد علي كسار

اعترف بدءاً بصعوبة هذا المقال عن إيران لكثرة تدافع الوقائع في المشهد الإيراني، وما شاب ذلك من تركيب، بل تعقيد والتباس. مع ذلك سأختار زاوية انطلاق أعتقد أنها بقيت بعيدة عن الأضواء إلى حدّ ما، بفعل الاستقطاب الحادّ الذي رافق حادثة الطائرة وغياب الرئيس ورفاقه، والمنطلق الذي أقصده هو التغيير الذي طال مجلس خبراء القيادة (خبرگان رهبرى) في دورته السادسة الحالية (افتُتِحت الثلاثاء الماضي) ودلالات صعود الهيئة الرئاسية الجديدة، وقد اُنتخبت بالتزامن مع تشييع الرئيس ورفاقه، فلم تلقَ إلا ظلالاً خبرية وتحليلية باهتة، لطغيان وقائع التشييع وامتدادها ثلاثة أيام، بمناطق ومدن مختلفة.

القيادة الجديدة

مجلس خبراء القيادة (خبرگان رهبرى) هي المؤسّسة الوحيدة دستورياً، المعنية بتحديد شخص قائد الجمهورية الإسلامية نصباً وعزلاً ومراقبةً (الدستور، الفصل الثامن، المواد: 107 - 112) مهما كان هذا الخيار، وطبيعة القوى الدينية والاتجاهات السياسية الكامنة وراءه.

لنعد قليلاً إلى الوراء. فإذا ما استثنينا القائد الأول وقد انبثقت قيادته بصيرورة شعبية عزّ نظيرها وتكوّنت عبر “كاريزما” شخصية استثنائية من الصعب تكرّرها فضلاً عن مقارنتها بالآخرين؛ فقد مارس مجلس خبراء القيادة دوره في انتخاب المرشد الحالي مؤقتاً، ثمّ تثبيت الانتخاب وتحويله دائماً، بعد وفاة السيد الخميني عام 1989م، وتمّ ترجيح خيار رجال الدولة والنظام عبر هذا المجلس، ومن خلال آلياته الدستورية والقانونية.

باختصار شديد؛ فمن بين تيارين متنافسين اتجه التيار الأول إلى القيادة الفردية، وقد كان خيارهم متجهاً إلى المرجع الديني السيد محمد رضا گلبايگاني (ت: 1993م) بصفته الأليق بالمنظار الشأني والمرجعي، في أن يملأ المقام الرفيع للسيد الخميني. 

وكان عمدة أنصار هذا التيار داخل مجلس القيادة هم من المصنفين على جماعة المدرسين في حاضرة قم، ومن يدخل في رؤيته بسلك العلماء حرفياً، بالمعنى العلمي الاختصاصي والوظيفي؛ فهؤلاء جميعاً كانت رؤيتهم أن الأليق بملء فراغ ما بعد السيد الخميني، هو اسم مرجعي بعنوان عريض مثل السيد الگلبايگاني، خاصةً مع خلفيته الإيجابية مع النظام، وأنه من أمّ الصلاة على جنازة السيد الخميني، ربما بتدبير من أنصار هذا التيار.


القيادة الجماعية

هذا ما يفسّر لنا تحديداً إصرار الرباعي في التيار الثاني داخل المجلس (السادة: رئيس القضاء عبد الكريم الأردبيلي، ورئيس البرلمان هاشمي رفسنجاني، ورئيس الجمهورية علي خامنئي، يعضدهم من الخارج وبقوّة أحمد الخميني) على رفض القيادة الفردية، والتوجّه صوب القيادة الجماعية الثلاثية أو الخُماسية التي كان يسمح بها الدستور السابق قبل تعديله (المادّة: 107) عند تعذّر اجتماع الخبراء على شخص واحد.

لقد جاء انحياز التيار الثاني ورمزيته الرباعية ومن يناصرها في مجلس الخبراء، إلى القيادة الجماعية من تشخيص دقيق جداً، يفيد بأن الگلبايگاني، لا يسعه أبداً إدارة دولة معقّدة بتحدّيات واسعة، وقد خرجت للتو من حرب مدمرة دامت ثمانِ سنوات، وفقدت قائدها الاستثنائي المميّز. 

فمتطلبات دور ملء مثل هذا الفراغ لا يمكن أن ينهض بها عملياً، غير رجل مدرّب ومجرّب من داخل دائرة الحكم نفسها، يضطلع بإدارة التعقيدات والمشكلات والتحدّيات، بتجربة متراكمة في ممارسة المسؤولية، خاصةً وأن إدارة الدولة (أي دولة كانت) لا يستند إلى بُعدٍ واحد، ولو كان بأهمية بُعد الفقاهة والأعلمية الفقهية في الاستنباط، التي يتحلى بها المرجع الگلبايگاني، وقد كانت سنّه قد تخطّت التسعين بسنوات، يوم طُرح اسمه لكي يشغل الفراغ القيادي بعد الخميني.


الخيارات البديلة

لذلك كله، لم يكن موقف رموز التيار الثاني في السعي وراء القيادة الجماعية ابتداءً، إلا محاولة للتخلص من تبعات قائد من خارج مؤسّسات النظام. من هنا ميلهم إلى هذه القيادة عبر الخيارات التالية:

1ـ ثلاثية مكوّنة من علي مشكيني (رئيس مجلس خبراء القيادة يومها) وموسوي أردبيلي (رئيس القضاء) وعلي خامنئي (رئيس الجمهورية).

2ـ الثلاثة المذكورون أعلاه، بالإضافة إلى هاشمي رفسنجاني (رئيس البرلمان) وأحمد الخميني.

3ـ خماسية مكوّنة من السادة مشكيني، أردبيلي، خامنئي، فاضل لنكراني، جوادي آملي (يُنظر: ملحق صحيفة جام جم، آب 2008م، ص 13).

هكذا نفسّر إصرار أنصار هذا التيار على درج أسماء ثلاثة متمرسة في تجربة الحكم (خامنئي، رفسنجاني، أردبيلي) في أي صيغة شورية مقترحة للقيادة البديلة، وأن الدافع الأساس هو ضمان صعود قيادة أو أسماء مؤثرة في هذه القيادة، من داخل النظام. ثمّ يأتي بعد ذلك دور علاقات السلطة والقوّة، والمجموعات وشبكة العلاقات الخلفية المؤثرة (اللوبيات) من خلف الكواليس، وغير ذلك من العناصر التي لا مجال لإنكارها قطّ في العمل السياسي.


القيادة الفردية

لقد سقط سريعاً خيار القيادة الفردية بعد أن لم يحصد المرجع الگلبايگاني أكثر من (14) صوتاً فقط من أصوات خبراء القيادة، من مجموع الثلثين اللازم بحسب القانون (يُنظر: بازسازى وسازندگى، مذكرات رفسنجاني، ص 150 بالفارسية). ثمّ تهاوى سريعاً اقتراح القيادة الجماعية بصيغتَيْها الدستورية الثلاثية والخماسية، بعد أن اجتمع على هدمه النقد الفقهي (ملخص القول فيه؛ إن أدلة ولاية الفقيه ظاهرة في الفرد، ولا دليل على تمثلها في مجموعة) والنقد العملي المتمثل بإخفاق تجربة الإدارة الجماعية في أجهزة الجمهورية الإسلامية خلال العقد الأول، ما سيؤدّي إلى ظهور المعوّقات نفسها في القيادة الجماعية، بل وما هو أشدّ منها لاسيّما وقت الأزمات والتحدّيات. (يُنظر في التفاصيل: مذكرات آية الله أميني، ص 297، 298 بالفارسية).

أضف إلى ذلك ما استدلّ به أنصار الرفض، من أُلفةِ المزاج الإيراني على المستوى الشخصي والجماعي للارتباط بالرمزيات الفردية، وحاجة الإيراني في تلك اللحظة الموحشة إلى الأمان النفسي، عبر ارتباطه بقيادة فردية واضحة ومحدّدة وليس بقيادة جماعية، وهذا ما كان (تُلاحظ مثلاً أقوال حائري شيرازي وقد كان أول المتحدّثين في رفض القيادة الجماعية. يُنظر: شهرية رمز عبور، العدد 8، ص 21).

هكذا كسب أنصار التيار الثاني الجولة وتحوّلوا عبر آلية التصويت، إلى القيادة الفردية، التي تمّ على أساسها انتخاب المرشد الثاني بمرحلتين؛ الأولى التصويت المؤقت لأن المرشد الجديد المنتخب لم يكن مرجعاً بحسب شروط الدستور للموقع يومذاك (المادة: 107 قبل التعديل). 

ثمّ بصفته قائداً دائماً بتصويت ثانٍ، أعقب الانتهاء من تعديل الدستور بتأريخ 11 تموز 1989م، والاستفتاء عليه شعبياً بتأريخ 28 تموز من السنة نفسها؛ هذا التصويت الذي تمّ فعلاً باجتماع مجلس الخبراء بتأريخ 6 آب 1989م، وأقرّ أعضاؤه ما سبق أن أقرّه المجلس في يوم الأحد الكبير 4 حزيران 1989م من السنة نفسها، فحاز المرشد مجدّداً على (60) صوتاً من مجموع (64) حضروا الاجتماع، بنسبة تزيد كثيراً على نسبة الثلثين المطلوبة (كما فعلتُ في مقالات سابقة، أحيل مجدّداً إلى كتاب موثق بالنصوص والأرقام بشأن ملابسات عزل منتظري ووفاة الخميني، وانتخاب المرشد الجديد على مرحلتين مؤقتة ودائمة، هو: روايت رهبرد، 620 صفحة. 

والكتاب صادر من داخل أجواء النظام ومن مؤيديه، ما يعطي معلوماته أهمية استثنائية).


ما أشبه الليلة بالبارحة!

لم يكن ما ذكرناه تأريخاً مجرّداً أو قصة صحفية وما شابه، بل هو من الشأن الإيراني بالصميم. فالجميع يقرّ بأن مجلس خبراء القيادة الجديد يعيش استنفاراً استثنائياً بانتظار أداء دوره في تحديد القائد الثالث للجمهورية، فيما لو حصل فراغ في الموقع، لاسيّما مع تجاوز عمر المرشد الحالي سنّ الثمانين بأربع سنوات. ولا شيء غريب في ذلك، فهذه هي سنّة الحياة والسياسة، وإدارة الدول.

ليس من أهداف هذا المقال مطلقاً، أن ينفي الاختلاف والتنافس والصراع من خلف الكواليس على هذا الموقع، فهذه من سنن العمل السياسي وتقاليده وأعرافه لا تشذّ عنه دولة. وارتباط التجربة بالإسلام لا يعصمها عن الاختلاف والتنافس والصراع؛ ففضلاً عن أن هذا ضدّ طبيعة البشر والتكوين الإنساني، وكينونة العمل السياسي وإدارة الدول؛ فإن طبيعة تجارب المسلمين في الحكم وكياناتهم ودولهم خلال التأريخ، تعطينا أرقام يقينية على مدى هذا الاختلاف والصراع.

بل أُضيف إلى ذلك بأن اللحظة الإيرانية الحالية في ملابسات اختيار القائد الثالث، أكثر تعقيداً مما كان عليه الحال في اختيار القائد الثاني. فبعد وفاة السيد الخميني عام 1989م، كانت الساحة لم تزل زاخرة بالكثير من الأسماء اللامعة من جيل الخميني، تكفي لملء فراغ القيادة، بعكس ما هو عليه الأمر اليوم، فقد اختفى الجيل المباشر من تلامذة الخميني ومريديه إلا ما ندر، ما يعني أن القائد الثالث سيكون من الجيل الثاني أو الجيل الجديد؛ وفي ذلك من المزالق والمخاطر قدر ما فيه من المحاسن. 

سأكون واضحاً لأسجّل أن مشكلة استخلاف المرشد الحالي أكبر من مشكلة استخلاف السيد الخميني. فعمر المرشد الحالي في القيادة هو (35) عاماً، استطاع فيها أن يرسّخ وجوده ونسقه القيادي بشكلٍ منهجي منظّم، وأن يصبغ الجمهورية الإسلامية في إدارة أمورها المفصلية وقراراتها المصيرية بصبغته، ومن ثمّ من الصعب أن نؤشر من بين المحيطين به أو نعثر في أفق النظام؛ على من هو قادر للارتقاء إلى قامته فضلاً عن سدّ فراغه القيادي؛ وهذه هي الإشكالية الواقعية مقشّرة بدون رتوش.

لكن مع ذلك ليست هذه هي القضية التي تخص هذا المقال؛ بل القضية أن أي سيناريو أو خيار للقائد الثالث، لابدّ أن يمرّ من نافذة “مجلس خبراء القيادة” ويخضع لآلياته، مهما كانت شبكة القوّة وعلاقات السلطة من ورائه؛ ومهما بلغت قوّتها ونفوذها. وهنا تكمن برأيي الأهمية الفائقة لمجلس الخبراء الجديد، ولقيادته في دورته السادسة.


خريطة الخبراء الجديدة

ازداد حجم التنافس على رئاسة مجلس الخبراء وهيئته القيادية، أكثر مما كان عليه الأمر إبّان أربعة عقود بدءاً بغياب علي مشكيني وهاشمي رفسنجاني ومهدوي كني ومحمد يزدي، وأخيراً أحمد جنتي الذي لم يُرشّح لتجاوز سنّه الخامسة والتسعين، وارتفعت مديات التنافس على قيادة المجلس، وقد كان أحد السيناريوهات الشائعة، أن يفوز بالرئاسة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، بصفته كان نائباً لجنتي. 

كما كان من الخيارات إمكان صعود رئيس مجلس القضاء الأسبق صادق لاريجاني، لكنه لم يفز وخسر مقعده. كما كان يمكن أن يفوز بالرئاسة حسن الخميني، لكنه لم يرشّح، وثمة من توقّع إمكانية صعود حسن روحاني إلى مقاعد هيئة الرئاسة، لولا أن رُفض ترشيحه، ولم يشترك بالانتخابات أساساً.

ليس سراً إطلاقاً الحديث المكثف عن طموحات للرئاسة وهيئتها، دفع إلى واجهة التنافس أسماء أُخر إلى جوار إبراهيم رئيسي، في طليعتها حسيني بوشهري وعباس الكعبي ومحسن آراكي وإلى حدّ ما علي رضا أعرافي وأحمد خاتمي، ولم نقرأ في أسماء المتنافسين اسم الرئيس الحالي الشيخ علي موحدي كرماني (93 عاماً) ما يدلّ على أن صعوده تمّ بفعل تسوية بين الأجنحة والخطوط المتنافسة، منحته الرئاسة لمدّة عامين، بواقع (55) صوتاً من مجموع (83) حضر افتتاح الدورة.ما أراه أنه بغياب الرئيس الراحل رئيسي، اتجه مجلس الخبراء إلى تهدئة التنافس في داخله، وبقرار تسوية ساق موحدي كرماني إلى الرئاسة، واحتواء أبرز المتنافسين بصعودهم مجتمعين إلى هيئة الرئاسة على الأقلّ لمدّة سنتين، ريثما تهدأ الأمور على جبهة البرلمان التي لم تُحسم رئاسته بعد، وعلى مستوى رئاسة الجمهورية بعد حادثة الطائرة.

عند هذه النقطة اختلفُ مع التحليلات التي ذهبت إلى أن واقعة الطائرة مدبّرة أو هي عمل كيدي، لإزاحة رئيسي والتمهيد لخيار بعينه. ببساطة شديدة لم يكن رئيسي منافساً لأحد على موقع القائد الثالث، منذ سنوات ثلاث على الأقلّ وليس من مدّة ستة أشهر كما جاء في تقرير لوكالة “رويترز”، انتشر كالنار في الهشيم.

أجل في يوم من الأيام، تحديداً قبل ثمانِ سنوات طُرح رئيسي كمرشد محتمل، في بعض التحليلات والقراءات وعلى مستوى بعض الأجهزة والشخصيات، لكن هذا الأمر انتهى تماماً منذ زمن طويل، على الأقلّ منذ توليه القضاء ثمّ الرئاسة قبل نحو أربع سنوات.

النقطة الأخرى المكملة؛ يمكن القول أن رئيسي كان يُنافس على رئاسة مجلس الخبراء ويخطط لذلك ويعدّ له، لكن لا يُنافس على موقع القائد الثالث، وفرقٌ كبير بين

الاثنين. 

وحتى لو استمرّت به الحياة ولم يفز برئاسة مجلس القيادة، فما كان ذلك سَيُخسرهُ 

شيئاً. 

أولاً، لأنه كان سيحتفظ على الأرجح بمقعده في رئاسة الخبراء نائباً أولاً أو ثانياً. ثمّ الأهمّ من ذلك أنه كان رئيساً فعلياً للجمهورية على مدار السنة القادمة، وبالقوّة في السنوات الأربع التي تليها كمدّة ثانية، جرياً على أسلافه جميعاً دون استثناء ممن أمضوا في الرئاسة دورتين.

وهذا الموقع يحقق له المطلوب في أن يكون ثالث ثلاثة في لجنة عليا تقود البلد في المرحلة الانتقالية، مكوّنة من رئيس الجمهورية، ورئيس القوّة القضائية، وأحد فقهاء مجلس حماية الدستور (شوراى نگهبان) ريثما يتمّ تحديد وانتخاب القائد الجديد (الدستور، المادة: 111).

لهذا أعتقد أن من غير الصحيح ما فعله كثيرون عن عمد أو دون عمد، بإقحام اسم الرئيس الراحل في التنافس المحتمل على موقع القائد الثالث، بينما كان الصحيح والأجدى صرف المنافسة إلى رئاسة مجلس خبراء القيادة، الذي تكشف لوحة أسمائه عن تهدئة وتوازن واحتواء في المشهد الإيراني برمته، لحسم الموقف على مستوى رئاسة البرلمان، والأهمّ من ذلك رئاسة الجمهورية وخياراتها المفتوحة.