ابراهيم العبادي
رغم الرحيل المفجع لرئيس ايران الراحل السيد ابراهيم رئيسي، الا أن المصاب الجلل لم يمنع القوى السياسية الايرانية من الاستعداد المبكر للتنافس مجددا على منصب رئيس الجمهورية الشاغر حتى قبل أن يوارى رئيسي الثرى. رئاسة الجمهورية في ايران موقع مهم ومؤثر في تراتبية السلطة بموجب الدستور، فصلاحياته ومسؤولياته تجعله في المرتبة الثانية بعد الولي الفقيه، ويستطيع الرئيس الهيمنة على الكثير من مواقع صنع القرار وتمكين اتجاهات سياسية بعينها، وتمرير سياسات بالتفاهم مع المرشد الاعلى، وقد يحصل اختلاف وتقاطع ويخضع لإرادة الولي الفقيه في موارد الاختلاف. لم تحصل في ايران تنمية سياسية موازية للتنمية البشرية والاقتصادية والثقافية منذ بداية الثورة، نتج عن ذلك ضعف في التشكيلات والتنظيمات السياسية الحديثة القادرة على التعبير عن مصالح الشارع، فما زالت الأحزاب السياسية نخبوية إلى حد ما، حزب المشاركة، حزب كوادر البناء، جبهة الصمود، وبقيت المؤسسات التقليدية ذات فاعلية في التعبئة والتوجيه والتأثير، منظمات رجال الدين، جمعيات الطلبة والمعلمين والعمال، والمؤسسات الامنية والعسكرية، الحرس الثوري والقوى والشخصيات المتفرعة منه.
كان النظام السياسي يشهد نوعا من التمثيل النسبي للقوى السياسية، بين معتدل ومتشدد، وبين اصلاحي واصولي،، بصعود الرئيس الراحل رئيسي عام 2021، اطبقت القوى الاصولية على اغلب المواقع السياسية وتراجع تأثير المحافظين والاصلاحيين لصالح التيار الاصولي الذي يناصبهم العداء، كان رئيسي خيارا ومظلة للاصوليين، وبهيمنتهم على مجلس الشورى ومجلس حماية الدستور وتناغمهم الكبير مع الحرس الثوري، بدت إيران وكأنها تتجه لمزيد من التشدد والانغلاق، الامر الذي دفع سياسيين ومثقفين واكاديميين إلى التحذير من ذلك والتذكير بأن الدستور والنظام السياسي بني على مفهومي الجمهورية ومشاركة الامة، وسلوك التشدد الاصولي يقود إلى اضعاف قاعدة السلطة ونقلها من حالة الاكثرية إلى الاقلية الحاكمة والمهيمنة التي تمرر تصوراتها وافكارها سيما في كيفية الدفاع عن مصالح ايران بين متطلبات المباديء الثورية والشعارات السياسية واشتراطات ومحددات الدولة وعلاقاتها الخارجية. برحيل رئيسي بدا الاصوليون مكشوفين لافتقادهم إلى الشخصية المناسبة التي يتفقون عليها، فهم ليسوا كتلة متماسكة، بل بينهم تنافسات ومماحكات، وبينهم وبين باقي القوى صراع مرير ليس على السياسات والمواقع السلطوية فحسب، بل على الفضاء السياسي والاعلامي والثقافي، كان رئيسي مظلة جامعة للتيار الاصولي المتشدد، برحيله وعودة التنافس على موقع الرئاسة، سيجد الآخرون فرصة للعودة إلى مواقع المنافسة، بعدما انحسر تأثيرهم الا في وسائل الاعلام. اول المتقدمين إلى ساحة الانتخابات الرئاسية علي لاريجاني، الذي منعه مجلس حماية الدستور من الترشح في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها رئيسي، اتجهت الاضواء مجددا إلى سعيد جليلي الاصولي المتشدد، الذي قد يصبح مرشح الاصوليين اذا ماقبلت اوراق لاريجاني وترشح هو الاخر، كان متوقعا ايضا ان يعود رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف إلى ساحة التنافس سيما وهو يمثل اتجاها اصوليا مرضيا عنه في اوساط الحرس الثوري، غير أن حظوظه ضعفت بعدما تراجعت الاصوات التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية الاخيرة وتقدم عليه اصوليون بفارق كبير من الأصوات. لن ينجح مرشح للرئاسة دون قبول من مكتب المرشد ومن الحرس الثوري عبر مجلس صيانة الدستور، وقد بالغ المجلس في السنوات الاخيرة في منع الشخصيات المعروفة من شغل مواقع كانت تشغلها سابقا، او مقبولة قبولا نسبيا ضمن مؤسسات النظام، كان منع علي لاريجاني من انتخابات الرئاسة السابقة لاسباب لم تنشر، ومنع الرئيس السابق حسن روحاني من المشاركة في انتخابات مجلس الخبراء الاخيرة، مؤشرا على الذهنية الانحصارية المحافظة جدا، التي صارت تضع معايير متشددة لمن تنطبق عليه (مسطرة) الثورة وخط القائد والدستور، وهذا التوجه في حقيقته يحسب للحظة شغور موقع المرشد ايضا، فقد سعى السيد الخامنئي في بداية ولايته ان يكون مظلة لجميع القوى والتوجهات والسياسات مع قدرة على ضبط الامور ضمن السياق العام الذي سارت عليه سياسة ايران الداخلية والخارجية، التحسب لخلافة المرشد يدفع القوى السياسية المختلفة إلى التمترس داخل المؤسسات الحاكمة لحماية مواقعها، ولأن الاصوليين المتشددين يحاولون الهيمنة على مقدرات البلاد، بزعم الحرص على مبادئ الثورة والاسلام وتجسيد ذلك عمليا في العلاقات الخارجية وفي الممارسات الداخلية، فان المؤسسات التي يديرونها ستكون ادواتهم في الامساك بالسلطة قبال منافسة وخصومة الاخرين. التنافس على موقع رئيسي هو في الواقع تنافس على الموقع الاول، موقع المرشد، لضمان استمرارية الخط الماسك للسياسات العامة، او فتح نافذة من التغيير تحتاجها ايران بعدما تسببت السياسات الاصولية المتشددة في جعل البلاد تواجه عقوبات اقتصادية ومضايقات سياسية وتهديدات أمنية وتحديات ثقافية أضعفت البلاد واحبطت مساعيها لبناء نموذجها التنموي الخاص. إيران في مخاض فعلي في لحظة تاريخية مفتوحة، نتائجها لن تبقى حبيسة الحدود الجغرافية، انما تتعداها إلى المحيطين الاسلامي والدولي.