د. حامد رحيم
قصة الموازنة في العراق قصة مريرة، جمعت تناقضا قل نظيره (إن لم يكن معدوما)، فهي من جانب امتازت بإيرادات غير مسبوقة بتاريخ الدولة العراقية، ناهزت بشكل إجمالي اكثر من تريليون ونصف تريليون دولار، وعبر واحد وعشرين عاما فقط لم تحقق أي منجز تنموي، وقد نصت النظرية الاقتصادية إن وفرت رأس المال شرطا ضروريا وليس كافيا لتحقيق التنمية، ولا يخفى عن المتابع أن مؤشرات الواقع الاقتصادي تفصح عن تراجع كبير في جوانب الطاقة والتنوع الاقتصادي والسكن والجانب الصحي والتعليمي، وحتى المناخ وتبعاته من تصحر وغيرها، وكل ذلك يؤشر غياب الكفاءة في الاستخدام للموارد الغزيرة للموازنة، أي أن هناك تبديدًا كبيرا، كذلك يؤشر غياب الفاعلية المتمثلة بالقصور في الوصول إلى أهداف المالية العامة المتمثلة وفق التنظير الاقتصادية التنموي إلى رفع مستوى النمو والاستخدام، وبالخصوص في الدول المتخلفة التي تصبو إلى تحقيق التنمية فالحكومة عليها مهمة النهوض التنموي، وهذا ما أظهرته التجارب التنموية الناجحة بعد الحرب العالمية الثانية من أدوار حكومية كماليزيا وسنغافورة وتركيا وغيرها.
والمؤاخذة الأخرى على الموازنات العامة في العراق هي قضية سريان تنفيذها فهي تمر (في اغلب الأحيان) بمراحل ماراثونية حتى تجد طريقا إلى التنفيذ، وهذه التباطؤات الزمنية قد تصل إلى اكثر من الستة اشهر واحيانا تمر السنة المالية دون إقرارها.
وبالعودة إلى النظرية الاقتصادية، ولغرض بيان التخبط والفوضى في الأداء المالي، فالنظرية تعطي للإنفاق الحكومي دورًا كبيرا في الطلب الكلي، بل يعد هو العنصر الأكثر مرونة في حفز الطلب الكلي بالمقارنة مع مكونات الطلب الأخرى (الإنفاق الاستثماري والاستهلاكي وصافي الميزان التجاري)، وهذه المكونات بأجمعها تعد عوامل دافعة للنمو الاقتصادي، وهذا يقود وفق النظرية إلى الحكم بان التباطؤ الزمني بالإنفاق الحكومي يقود إلى تراجع في النمو الاقتصادي، خصوصا اذا كانت العوامل الأخرى غير فاعلة كما هو في العراق.
والسؤال هنا هل لهذا الكلام واقع في الاقتصاد العراقي؟
إن الموازنة في العراق استندت إلى فكرة (التوزيع) أي محاولة لإيجاد منفذ بين إيرادات الريع النفطي والطلب الاستهلاكي للأفراد المتمثل بالرواتب، ومنح الإعانة الاجتماعية، بالإضافة إلى الإنفاق التشغيلي الآخر، الذي فاق (مع الرواتب والمنح) أكثر من (80%) معدل، وبلحاظ قلة التوجه الاستثماري الداخلي بسبب عوامل الأمن والسياسة وغيرها، أصبح ذلك الطلب الاستهلاكي محفزا للاستيرادات، مما رفع العجز في الميزان التجاري غير النفطي، الأمر الذي انعكس على فقدان فرص النمو الاقتصادي.
إن التوقعات التي رافقت إقرار الموازنة الثلاثية الأخيرة لتخطي عقبة التباطؤ الزمني في إقرار الموازنة، لم يكن لها واقع، ونحن اليوم اقتربنا من نصف السنة المالية، ولم تقر جداول الموازنة، مما يعني أنها لم تختلف عن سالفاتها في هذا الجانب.
ومن جانب آخر، إن التأخر في إقرار الموازنة لم يؤثر في دور الموازنة المعهود كون الرواتب والمنح مستمرة، ولم تنقطع وهي الجزء الأهم المحفز للمعادلة المشار إليها آنفا، ومن ثم محاولة ربط النشاط الاقتصادي ببعده التنموي بالموازنة العامة، وفق هيكلها القديم الجديد، سواء في ظل الموازنة السنوية أو الثلاثية امر غير صحيح وفيه تظليل للراي العام ومحاولة لصناعة وهم، فالأثر التنموي المنشود يحتاج إلى تغيير هيكلي في الموازنة يحولها إلى شكل آخر يستند على البرامج والأداء، بدل البنود ويعزز الدور الرقابي عليها وضمان إنتاجية عالية للإنفاق الحكومي والتقليل من الاعتماد على الريع النفطي فيها، وهذا ما لا يتوافق مع الغايات السياسية التي تعمل على استثمار الموازنة لخدمة أجندات سياسية ضيقة.
إن ما تسوق من أطروحات إلى الرأي العام واهمها تلك السردية، القائمة على أساس ربط تأخر الموازنة بالأثر التنموي ورمي تردي الواقع الاقتصادي على شماعة التباطؤ الزمني للموازنة، يعد تجهيلًا متعمَّدًا واستخفافًا بالعقلية المتلقية، بما إن الفساد حاضر بقوة وأبواب الانفاق ذاتها دون تغيير جوهري وتصدر الأثر السياسي الضيق للمشهد المالي الحكومي، فإقرار الموازنة بوقتها أو تأخرها، أو تكون لسنة أو لعدة سنوات لن يحقق تنمية اقتصادية، ولن ينعكس على تغيير الواقع الاقتصادي نحو التنمية.