سوسن الجزراوي
لسنوات عديدة وعقود عفى عنها الزمن، بقيت متلازمة الحرية في التعبير عن الرأي، تشغل اهتمامات شريحة واسعة من المجتمع، سواء منها في الشرق الادنى أو الشرق الاقصى، ونأت الكثير من الدول الغربية بنفسها، بعيداً عن هذه القيود المفروضة على الأفكار، والقدرة على التعبير عنها، صحيح أنها لم تكن متحررة بشكل كامل، إلا أن ردود الافعال ولأعوام كثيرة، لم تصل إلى حد تكميم الافواه أو إقصاء المتحدث أو معاقبة صاحب الرأي المخالف للقاعدة العامة.
وقد منحت هذه الفسحة من الانفتاح الفكري والشعور بالأمان للشعوب، فرصاً عديدة لإبداء الرأي بشكل عقلاني سلمي اخلاقي، بعيداً عن شعارات العنف والتحريض الا ما كان منها لصيقاً بقضايا مصيرية حقيقية، مثل الأزمات الاقتصادية الكبيرة وايضا قرارات الدعوة للحروب الشرسة، كذلك فيما كان منها متعلقاً بالكوارث الصحية والطبيعية وغير ذلك من الامور التي تجعل (الصخر ينطق).
وبحسب التعريفات التي اتفق عليها الكثير، فإن حرية التعبير تعني (حرية ابداء الرأي) والاعلان عنه، كونه يعد من الحقوق الفردية الخاصة بالإنسان وبطبيعته، كما تم تصنيفها على أنها واحدة من أهم الحقوق المدنية والاجتماعية والثقافية، التي تسهم بشكل فاعل في المجتمع، ويتضمن هذا، حرية التعبير في الشؤون العامة، بالتالي فإن حرية الرأي والتعبير، مصدر أساسي للكثير من الحريات كما تعد عاملا أساسيا لمباشرة الحقوق السياسية اعتماداً على فكرة انها احد اهم عناصر بناء الكيان العام للدولة، (السياسة)، وتحديد أولوياته ومتطلبات العيش الآمن وتوضيح طبيعة العلاقة بين الشعب والسلطة الحاكمة من جهة، ورسم خارطة نموذجية عن طبيعة العلاقات مع الدول، وما قد يثمر من فوائد من خلال البروتوكولات المبرمة في ما بينهم.
ولا يخصع مفهوم التعبير عن الرأي لفكرة تأطير حيثياته وتبويبها في شكل محدد، كأن يكون مقروءا أو مسموعاً أو ملموساً، فالكثير من الحكايات التي كتبها التاريخ الماضي والمعاصر، سلطت الضوء على احداث كبيرة مصيرية، لعبت فيها هذه الحرية دوراً مهماً، نجح في تحويل الكثير من الآراء الفردية الفقيرة، إلى قضية رأي عام، وبالتالي ساهم في إحداث تغييرات لم يكن لها ان تكون، لولا تلك الاصوات التي كتبت وصرخت في وجه قرارات قاسية وقوانين عمياء.
واعتماداً على نظرية : حدث العاقل بما لايعقل، جاءت بعض الضوابط الآمنة لتكون درعاً إزاء ما يتم طرحه، فان بعض المطبلين وراكبي الامواج، يحدثون العقلاء بما لا يعقل، معتقدين بأن حرية التعبير تتيح لهم ان يتحدثوا بما يعشعش في عقولهم، وهذه أولى المطبات التي يُسقطون فيها، لأن أغلبية الناس تحرروا من قيود الجهل والتغييب، ولم تعد تلك التابوهات البالية والأفكار المؤدلجة تأثر فيهم.
وبشكل عام، فان هذه الحرية في إبداء الرأي، يمكن ان يحدّها في بعض المفاصل، الإطار القانوني الذي يسهم في ارساء حصانة اخلاقية للمجتمع، عن طريق منع ومحاسبة من يمارس التشهير والقذف والسب تحت ذريعة (الحرية)، أو من يحرّض على العنف الطائفي الذي يؤدي إلى الاقتتال، كذلك محاسبة من يقوم بالترويج لمفاهيم لاأخلاقية تدعو إلى الانحلال والمفاسد، كل هذا يضاف اليه (حرية التعبير الذي ينتقل عبر فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي وبخاصة ما يتم عبر جيوش الكترونية وحسابات وهمية، فهذا ربما يعد الاخطر والاكثر قبحاً في مفهوم حرية التعبير).
امام كل ما تقدم من طروحات يدركها الكثير، تأت ضرورة تهذيب حرية التعبير عن الرأي من خلال خلق نوعا من التوازن بين الحق في التعبير وابداء الرأي، والمسؤولية المجتمعية، وذلك عبر احترام آراء الآخرين وحرياتهم ومعتقداتهم وطقوسهم وتجنب التحريض على الكراهية أو العنف.
كما لا يخفى عن الجميع، إن حرية الرأي في مجال مايُسن من قوانين مجحفة أو قرارات غير عادلة، ربما يعد من اهم خطوط الحرية الانسانية والاجتماعية، على أن تكون بطرق سلمية بعيدة كل البعد عن الهمجية، وهنا تلعب الثقافة وتوجيه بوصلة الافكار السليمة دوراً مهماً جدا في هذا الخصوص، وهي مسؤولية مشتركة لايمكن لأي فرد أن يتهرب منها بحجة عدم الرغبة بالتدخل أو بحجة
(لا علاقة لي بما يحدث)،
فنحن نعيش في ذات الكوكب ونتعرض لذات الكوارث وذات الظلم احياناً، لذا فإن كل هذا يتطلب وقفة واحدة حازمة لا تشوبها شائبة ولا تخضع لمفهوم المزاجيات الخاصة، فبناء المنظومة المجتمعية هي مسؤولية كل من يحيى على أديم هذه الأرض.