قصة الأمن الأوروبي

آراء 2024/05/29
...

 د. أثير ناظم الجاسور


جرت التحولات الدولية بواقع مختلف عن توقعات وعمل وإجراءات الدول الأوروبية، لتصبح أرض التنافس والصراعات والحروب الطاحنة، التي ولدت ملايين القتلى، فضلا عن الدمار الذي جعل منها رهينة سيطرة القوى والأفكار والمنطلقات الاستراتيجية للقوى الكبرى والعظمى، حربان عالميتان طاحنتان توزعت القوة فيها بين قوى أساسية وقوى ثانوية، لتخرج منها الدول الأوروبية قوى منهكة غير قادرة على إدارة شؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتصدعة، لتليها حربا أيديولوجية أعلنت عن تقسيم العالم فكرياً - سياسياً لتُحدد قطبين عظيمين مع قوى كبرى واخرى تقليدية متراجعة، عانت من خلالها الدول الاوروبية من تقسيم القارة على الأساس الأيديولوجي والجغرافي بجدار برلين العازل، الذي عزز من الانقسام لتشتد الصراعات وتمرير المسؤولية بين هذه القوة أو تلك، هذا إلى جانب فقدان المركزية التي ساهمت في بفقدان الاستقلال والسيادة لهذه الدول التي بات توزيعها وتقسيمها من بديهيات نظام القطبية الثنائية، فضلاً عما تضمنته هذه المرحلة من بناء لتحالفات وتنظيمات وتجمعات عسكرية وسياسية واقتصادية لعبت دورا في تحديد مفهوم الأمن بالأخص أمن القارة والهاجس من عودة ذلك الدمار، الذي صاحب الملايين من القتلى وتدمير البُنى 

التحتية.

بعد نهاية الحرب الباردة 1989 وزوال الخطر الشيوعي العدو المُهدد للسيادة والامن الأوروبي تحول العالم إلى احادي مسيطر مهيمن بقيادة الولايات المتحدة التي لم تكتفِ بإعلان نفسها قائدا، انما حددت القواعد التي يسير على أساسها النظام الدولي، وهذا جاء مغايراً للرغبة الأوروبية، التي رأت بنهاية الحرب الباردة بداية لعصر الاستقرار ونهاية التهديدات التي ارعبت دول القارة، صور للسلام متعددة رسمتها وجهة النظر الأوروبية تبددت مع أول صراع قومي - عرقي في دول أوروبا الشرقية تحديدا الدول المنشقة من الاتحاد السوفيتي (دول البلقان)، هذا الصراع ساعد الولايات المتحدة من جديد بالتدخل بالشأن الأوروبي فضلاً عن المخاوف التي رافقت السياسات الأوربية في التعامل مع هذه الصراعات التي من الممكن أن تتمدد للقارة ككل، فكان الابقاء على حلف شمال الأطلسي والسير وراء الاستراتيجيات الأمريكية المصلحية ضرورة دولية وعالمية في تلك المرحلة الحرجة، وما أن بدأت الدول الاوروبية من ترتيب أوراقها والتعامل مع التحديات من منطق العقل والارادة السياسية المؤمنة بالواقع ومجريات الاحداث، التي تفرض على الجميع السير وفق مقتضيات المرحلة، لكن الأمن والهاجس الامني بقي يؤرق الإدارات الأوروبية لغاية الحدث الأكبر 11 سبتمبر 2001، الذي جعل من دول القارة وبالاخص الحلفاء الاوروبيين أداة لأجندة محاربة الإرهاب والخوف من الخطر الذي هز اكبر قوة في العالم أن يفعل فعلته بالقارة ودولها مما جعلها تُعيد ترتيب اجنداتها بما يتوافق والاجندة الأمريكية كمشاريع لصيقة، لا يمكن انشطارها والامن وهاجسه هو ذات التوجه الذي أعاد دول القارة للتقوقع والسير خلف القوة العظمى.

جاء الغزو الروسي لاوكرانيا هذه المرة ليقيم تابوات الاستقرار، التي تحلم به دول القارة الأوروبية المهدد ليس فقط السيادة الأوروبية واقتصادها المنهك لا بل حتى التوجه الفكري الذي يحمله الروس المبني على جملة من المنطلقات الفكري - الفلسفية الداعية وباصرار من الخلاص من الغرب، ذلك الغرب الذي تم وصفه على أنه لا يملك المقومات الحضارية، لا بل لا يُعد سوى ظاهرة حضارية قابلة للزوال، بات الغزو الروسي لأوكرانيا مزعزعاً للأمن الأوروبي الهش اذا ما تم التدقيق في تفاصيله وهذا يرجع إلى أن أرض هذه القارة هي الأرض هي ممر التدخلات لما تحمله من أهمية سواء كمعبر أو كارض منتجة لعدم الاستقرار، وعلى هذا الأساس فإن الأمن الأوروبي المهدد بين الحين والآخر جاء نتيجة سببين الاول هو سياسة الاحلاف والتكتلات، التي جعلت من دول القارة رهينة سياسات الدولة القائد، والسبب الثاني انها قابلة لاستقبال الصراعات وبلورتها على أرضها لكن وفق تبنيات القوى المتصارعة لتتحول هي إلى قوى ثانوية تابعة، بالتالي لا خيار أمام الدول الاوروبية إلا أن تستقل كل دولة بذاتها وتعمل وفق سياساتها الوطنية وامنها الوطني غير ذلك ستبقى مُهددة وغير مستقرة لا سياسياً ولا اقتصادياً.