د. عدي حسن مزعل
لا خلاف في أن أحداث 7 أكتوبر جعلت غزة المدينة الأكثر تداولاً في نشرات الأخبار وحديث الناس، كما سلطت الضوء على القضية الفلسطينية، وأعادت إحياءها بعد أن طواها النسيان، ما أدى إلى إرباك الطبقة السياسية والنخب الفكرية والإعلامية في العواصم العالمية الكبرى، كما استدعى الحدث تعاطفاً عالمياً غير مسبوق من دول فاعلة وغير فاعلة في المشهد العالمي.
ويعود ذلك إلى المشاهد المروعة القادمة من أرض الإبادة والتي صدمت العالم بأسره، حتى حلفاء الكيان الصهيوني وداعميه الكبار، كانت لهم مواقف وتصريحات من تلك المشاهد الكارثية، والتي فاقت في بشاعتها كل الحروب والصراعات الكبرى التي شهدها العالم، الأمر الذي أحرج دولاً مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا. إذ كيف لدول ترفع راية حقوق الإنسان وتدعم تطبيقها في البلدان الأخرى، بل وتعاقب من يخرقها، تدعم هي الآن حرباً تشنها دولة لا تكترث لحياة المدنيين وتحصد أرواحهم بالآلاف دون رادع أو محاسبة؟.
وإذا كانت حرب الإبادة الجارية قد أظهرت الوجه البشع لإسرائيل للعالم، فإن ثمة حدثاً آخر يجري بعيداً عن أرض فلسطين، ويسهم من زاوية أخرى في فضح جرائم ودموية هذا الكيان. وذلك هو الحراك الطلابي، الذي أهم سماته أنه يطيح بالرواية الإسرائيلية الرائجة في الأوساط الثقافية والإعلامية الغربية، حيث الكيان دولة ليبرالية سباقة إلى العمل بمبادئ حقوق الإنسان، وهو امتداد للنظم الغربية سياسياً وثقافياً واقتصادياً، وأن جيشه أكثر الجيوش التزاماً بالمعايير الأخلاقية.
والمهم أن هذه الاحتجاجات تفضح زيف هذه الصورة الرائجة، وهي أخطر على الكيان من وقع القنابل والصواريخ. لأن ما يؤسس شرعية الكيان والدعم الذي يتلقاه مبني إلى حد كبير في ضوء هذه الصورة المصطنعة والرائجة في الغرب عنه. من هنا حرص الكيان وحلفائه على محاربة، ونبذ كل من يجرؤ على كشف زيف الرواية الصهيونية في الغرب، لأن في ذلك الكشف قطعا لرافد يغذي حياة الكيان ويمده بكل مقومات البقاء والقوة، أقصد حياته المستمدة منذ تأسيسه وإلى اليوم، والمتمثلة في الدعم الغربي اللامحدود، وهو دعم تقف خلفه أهداف دينية ومصالح
سياسية واقتصادية.
ولعل زخم الاحتجاجات والخشية من تداعياتها، خاصة وأنها اندلعت في جامعات الكثير منها معاقل لجملة من نخب الغرب السياسية والثقافية، هو ما دفع رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى المسارعة في شيطنتها. والأغرب هو تحريض رئيس حكومة حكومات شعوب أخرى على معاقبة مواطنيها، وذلك لأنهم "مخربين"، و"معادين للسامية"، و"داعين إلى إبادة إسرائيل"، و"يهاجمون الطلاب اليهود"، كما جاء في حديث نتنياهو عن الطلبة المحتجين. علماً أن هذه التصريحات وغيرها كثير ليست سوى أكاذيب وتهم لا صحة لها على أرض الواقع.
ومن الحيل التي لجأ إليها نتنياهو تشبيهه الاحتجاجات الطلابية الجارية بما حصل في ثلاثينيات القرن العشرين في الجامعات الألمانية من عداء وتمييز لليهود آنذاك. وهو يريد من هذا التشبيه التذكير بمظلومية اليهود من أجل كسب التعاطف والتأييد، إضافة إلى قمع هذا الحراك كي لا يتمدد وينتشر في أوساط أكبر عدد من الطلاب. في حين أن هذه المظلومية المسلحة بيافطة "معاداة السامية" لكل ناقد للصهيونية، غدت أسطوانة مملة ما عادت تقنع الكثيرين، بل إنها تحولت إلى مادة للتهكم والسخرية من طرف بعض الغربيين أنفسهم.
والجديد في هذه الاحتجاجات أنها حطمت تابوهات وتخطت خطوطاً حمراً، إذ لم يسبق أن حضرت إسرائيل في الوعي الطلابي الغربي بوصفها دولة إبادة يقتضي الحال معاقبتها على جرائمها. وذلك أمر تخشاه إسرائيل كثيراً، لأنها اعتمدت على ترويج صورتها، بوصفها نموذجاً فريداً لدولة شرق أوسطية تحاكي النموذج الغربي وتدعم سياساته ومواقفه في الشرق الأوسط، وأنها دولة سلام وقانون وعدالة، وشعبها أكثر الشعوب تضرراً من سياسات التمييز والعنصرية والإبادة الجماعية التي طالته عبر تاريخه الغابر، وخاصة في أوروبا زمن الحرب العالمية الثانية. فكيف تنطلق الآن وبقوة دعوات إلى معاقبتها وقطع الدعم عنها، وفي دول تمثل معقل الإمبريالية العالمية اليوم (الولايات المتحدة الأمريكية)، وفي أخرى أقل هيمنة وقوة (بريطانيا وفرنسا)؟
وإلى جانب دور الميديا في تفعيل الاحتجاجات وزيادة ردود الفعل على حجم الدمار والمجازر، ثمة ما يتعلق بماهية الجامعات في الغرب ويفسر حجم أتساع الاحتجاجات فيها، أقصد أن ثمة عاملا داخليا مفاده بأن الجامعة مؤسسة تعليمية مستقلة تتيح لطلبتها قدرا عاليا من الحرية الفكرية والتحليل الموضوعي لقضايا العصر بعيداً عن القسر والاكراه، وخارجي يتعلق بالمناخ العام السياسي والثقافي، وهو مناخ يغلب عليه الطابع الليبرالي، والذي يبدو انه يتراجع ويصدم المحتجين ما أن يتعلق الأمر بإسرائيل.
وكأن في ردود الفعل الحكومية المتمثلة في استخدام القوة والاعتقال والطرد، ما يشير إلى ضرورة تبني رواية محددة ورائجة سلفاً هي الرواية الصهيونية لا غير. أي أن على الجميع الإذعان لتلك الرواية والتفاعل معها قولاً وفعلاً بوصفها الحقيقة المطلقة والنهائية التي لا يجوز المس بها أو التعرض لها، لأن كل رواية أخرى أو تفسير آخر للأحداث هو محض أكاذيب وادعاءات لا صحة لها. والانحياز الكامل للرواية الصهيونية ودعمها هو ما جعل رئيس مجلس النواب الأمريكي يصف الاحتجاجات الطلابية بــ (الهراء).
ويبقى أن الاحتجاجات الطلابية تعبير عن موقف أخلاقي ــ إنساني رفيع، رافض لأعمال الإبادة والمجازر الجارية في غزة، والتي تؤيدها حكومات ترفض شريحة من مواطنيها دعمها والتواطؤ مع مرتكبيها. وذلك الموقف هو أشبه بشعلة نور وسط ظلام دامس صنعته مصالح وسياسات الأقوياء، موقف بحاجة إلى الوقوف عنده وتأمله في مقال خاص، وهو ما سيكون موضوع مقالنا القادم.