فرنسا القديمة وكاليدونيا الجديدة

آراء 2024/06/03
...

 د. محمد وهاب عبود


مثلما أنتجت فرنسا رواد الفكر الفلسفي التنويري والنهج العقلاني النهضوي بشقيه المعرفي والإنساني، ينوء تاريخها بإرث استعماري طافحا بكل صنوف القسوة والاضطهاد ونهب الثروات، وبما أن مبدأ الاعتراف بارتكاب الخطأ والاعتذار عنه وتعويض المتضرر يصفح عما قبله، فقد سعت بعض النخب الفرنسية الحاكمة إلى تبني هذا النهج تجاه السكان الأصليين في مستعمراتها السابقة التي انتزع بعضها الاستقلال وأصبحت دولا ذات سيادة، مع الإشارة إلى أن عدد مستعمرات فرنسا إبان الحقبة الاستعمارية في مختلف أنحاء العالم بلغ نحو 63 مستعمرة. إن ما لم يُردد على مسامع الكثيرين، هو امتلاك فرنسا لمستعمرة حاليا يُطلق عليها حسب التسمية الأوروبية “كاليدونيا الجديدة”، وهي في الأصل شعب مجموعة جزر ( أرخبيل) الـ “كاناكي” وتقع شرق أستراليا وشمال نيوزيلندا، وتبعد عن فرنسا 16,136 كم، وتخضع للسيطرة الفرنسية منذ عام 1853، وغنية بمعادن كثيرة، أبرزها “النيكل”. وفي عام 1986 أدرجت لجنة الأمم المتحدة لإنهاء الاستعمار كاليدونيا الجديدة في قائمة الأقاليم غير المحكومة ذاتيا، وبعد عام من الادراج نُظم استفتاء بشأن الاستقلال، إلا أن غالبية ممن شاركوا في الاستفتاء صوتوا ضده، فيما رفض السكان الأصليين الإجراء، واتهموا العرق الأوروبي الوافد، الذي يشكل أكثر من 30 بالمئة من السكان، بالتلاعب بنتائج الاستفتاء الذي وصفوه بالصوري.  وقبل أيام، عادت “كاليدونيا الجديدة” إلى المشهد الإعلامي والسياسي الدولي، لكنها عودة ضعيفة وباهتة، رغم سخونة الاحتجاجات الواسعة وأعمال الشغب التي اجتاحتها على خلفية مشروع قانون انتخابي ينص على السماح للفرنسيين بالمشاركة بالانتخابات، واعترض عليه السكان الأصليون المطالبون بالاستقلال، وعدوه مشروعا تهميشيا وإجراء لتحويلهم إلى أقلية عرقية. في الأثناء، أرسلت فرنسا تعزيزات أمنية أعقبها زيارة عاجلة للرئيس الفرنسي إلى الإقليم إذ وصف من هناك الأحداث بالتمرد غير المسبوق.

لقد حاول الإعلام الفرنسي خاصة والغربي عامة إلى التقليل من أهمية الحدث، واستبعاده من أجنداته اليومية، غير أن العالم الاتصالي اليوم لا تحده حدود ولا تقيده قيود، وتدرك فرنسا ذلك جليا، إلا أنها في مأزق حقيقي، فهي من جانب، الدولة الرائدة في مجال التنظير القيمي وحقل التأطير الاخلاقي عبر نتاجها الفلسفي المستند إلى فكرة مركزية محورها رفض كل أشكال القهر والاستبداد، ومن جانب آخر، بقايا نهج استعماري ما زالت عالقة في جسد المؤسسة السياسية الفرنسية، ترى فيها أن الهيمنة والقوة هي مصدر الثروة والثراء ولو على حساب الآخر، أو بإشراكه نسبيا لكن وفق قواعد تخضع لرؤيته.

 ووفق المعطى السلوكي الفرنسي الاستعماري القديم، فلن تتهاون باريس، بأي حال من الأحوال، لو تم خرق القواعد أو عدم الانصياع لها، وإذا مسًها أي عارض معترض، فهي مستعدة لتحطيم كل منجزها القيمي والانساني التنظيري على صخرة المصالح والتوازنات الدولية.

ثمة صراع فكري محتدم تعانيه مراكز صنع القرار في الدولة الفرنسية، بين نزعة استعمارية متخفية متشبثة بالماضي، وبين مرجعيات نظرية ذات بعد أخلاقي تتمثل بحصيلة ثرية من المعارف والعلوم الانسانية، التي تؤسس لنهضة بشرية قوامها الحرية والسعادة والعدالة الاجتماعية، ونظرا إلى استحالة الجمع بين النقيضين، الحرية والاستعباد، العدالة والاضطهاد، السعادة والبؤس، فذلك سيصعب المهمة أمام قادة الفكر والسياسة الفرنسيين، فإما يرى العالم فرنسا متحضرة تستمر برفد الكوكب بقيم التنوير ومبادئ النهوض أو فرنسا قديمة استعمارية تعود إلى حقبة العتمة والظلام.