باقر صاحب
بحسبِ السونارِ الذي أظهرَ أنَّ زوجتهُ حاملٌ بولدٍ، يبدو كأنهُ كبير الحجمِ على خلافِ أوزانِ الأطفالِ حديثي الولادةِ.
قرّرَ الأبُ تسميةَ ابنهِ القادم (غالب) وظلَّ ينتظرُ خروجَ ( الغالب) ودلّلَ زوجتهُ، لأنها ستنجبُ ابنَهما البكرَ ذكراً .
يومُ الولادةِ في المستشفى تجمَّعَ الأبُ وذووه من والدةٍ، وأخوةٍ وأخواتٍ بانتظارِ خروجِ ابن أخيهم الكبير إلى الدنيا، كان مخاضاً عسيراً على الرغمِ من أنّ الولادةَ طبيعية .
سَمعوا صرخةَ الوليدِ فهلّلوا فرحاً، ولكنّهم وَجِموا قليلاً حين علموا باستمرارِ الطّلقِ عند الأمِّ الفتية، فأعقبَ هذا الطلقَ الغريبَ صراخٌ آخر، إنّهُ الولدُ التوأمُ.
على الرغمِ من ذهولِ الأب، فقد أطلقَ سريعاً تسميةَ (مغلوب) على التوأمِ، كنوعٍ من التناغمِ الغريبِ من وجهةِ نظرِ بعضِ أخوته، وامتعضتْ بعضُ الأخوات من التسميةِ ( لماذا مغلوب!).
لم يقتنعنَ أن يكونَ أحدُ ولدي أخيهنَّ الكبيرِ مغلوباً، فَهمَ، أب التوأم، ما يدورُ في خُلدهن، قالَ لهن بسرعةٍ حاسماً الأمر:- هي الدنيا كلّها، هكذا، غالبٌ ومغلوبٌ- ومن ثمِّ أضافَ بعد صمتٍ قصير- هي أسماءٌ لا أكثرُ ولا أقل.
ما نطقهُ بعفويةٍ بأنَّها مجرَّدُ أسماء، أخذَ ينجلي مداهُ، بعد أن نما التوأمانِ، وزادَ حراكُهما ولعبهُما.
الأمُّ اللصيقةُ بهما ليلَ نهار، عكسُ الأبِ المنهمكِ في عملهِ صباحاً، ومع أصدقائهِ وسهراتهمْ مساءً، أخذتْ تلحظُ أنًّ (مغلوب) بدأتْ تظهرُ بدانتهُ، على عكسِ أخيه (غالب) الذي أصابهُ هزال، على الرغمِ من أنَّ أمّهما تغذّيهما بالحليبِ من ثدييها، وبكمياتِ الرضاعةِ نفسها، لكنَّ (مغلوب) يزعقُ بالبكاء، إن ألقمتْ أمّهما الصابرة ثديها فمَ (غالب) أولاً، ولا يكفُّ عن الصُّراخِ إلى أن تضعَ (غالب) أرضاً، وتشرعُ برضاعةِ (مغلوب).
لكنَّ من غرائبِ (غالب)، إنهُ يسكتُ ولا يبكي، إلاّ حينَ تطولُ فترةُ رضاعةِ (مغلوب)، وعلى وتيرةِ هذه المشاكساتِ الطفوليةِ في بادئِ حياتهما، بانتْ بدانةُ (مغلوب)، الذي بدأ يؤذي أخاهُ (غالب)، في أثناءِ لعبهِما، يخمشُ ألعابهُ، بل يخطفُ حتّى الحلوى، حتى وإن وزّعتِ الأمُّ الألعابَ والحلوى عليهما بالتساوي، ما شكّلَ هاجساً مقلقاً لدى الأم، وقرّرتْ أن تصارحَ به زوجَها، ولكنَّهُ يعودُ منتصف الليل إلى البيت دائخاً من تناولِ (النارجيلة) والمنافسةِ الشديدةِ مع الأصدقاءِ في لعبتي الطاولي والدومينو، فضلاً عن نقاشاتهم في جميعِ الأمور، فلذلك كانت تؤجلُ مفاتحتهُ بحيرتها، التي تكمنُ في أنَّ سلوكيات(مغلوب)، عكسَ اسمه تماماً.
وبدأتْ ملامحُ العنفِ تنمو عنده، على عكسِ (غالب) الذي يبدو مسالماً، فحين يستولي (مغلوب) على حاجياته، كلُّ ما يفعلهُ (غالب) البكاء، ومن ثمَّ يصمتُ بعدَ ترضيتهِ
بأبسط لعبةٍ، يستولي (مغلوب)عليها أيضاً.
حينَ كبرا، كانتْ ملامحهما متشابهةً: الشعرُ الأسودُ، والبشرةُ الحنطيةُ، الطولُ متساوٍ، ما عدا أنَّ (مغلوب) استمرّ في اكتسابِ ضخامةِ بدنه، بينما (غالب) رشيقُ القوام.
بدأتِ اللعبةُ تكبرُ على أعلى مستوياتِ ثنائيةٍ أزليَّة، بحسبِ المأثورِ الشعبي، الدنيا غالبٌ ومغلوبٌ، مأثورٌ انطبقَ عليهما، مثلما ينطبقُ الحافرُ على الحافر، فالأولُ (غالب) حين شبَّ، سلكَ مسارَ الاستقامةِ، والاجتهادَ في التحصيل العلمي، وعدمَ التعاملِ مع الآخرينَ بالتغالب .
على عكسِ أخيهِ (مغلوب)، يسري في دمائهِ التغالبُ مع أخيه، وأهلهِ والمحيطينَ به، بل كانَ عكسَ سلوكِ أخيهِ في كلِّ شيءٍ، فلم ينلْ تحصيلاً علمياً، وسارَ في طريق الأعمالِ الخاصّةِ، التي يُمارسُ فيها النصبَ والاحتيال، من أجلِ تحصيلِ المالِ وتقويةِ النفوذِ بأيةِ وسيلةٍ كانتْ.
كانَ (غالب) يمتازُ بطيبةٍ عاليةٍ، جعلتِ الآخرينَ يستغلونهُ، مثلاً حينَ بنى داراً، بما ادَّخرَ من نقودٍ، نصبَ عليه المقاولُ، الذي بكلامهِ المعسولِ، بنى له بيتاً من مرمرٍ، ليس بالأفعال، بل بالأقوالِ والوعودِ الكاذبة، فسحبَ مدّخراتهِ، ولم يتمْ إنجازُ أكثرِ من 50 بالمئة من بناء البيت، فما كانَ منهُ، إلاّ أن أقامَ دعوىً عليه، تترنَّحُ بين المحاكمِ مدةً ليستْ بالقصيرة.
أمّا في مجالِ عملهِ الوظيفي، حيثُ إخلاصُ (غالب) ليسَ لهُ مثيل، هناكَ من يوقعُ بهِ من قبل الموظّفينَ المشبوهينَ، الذين يريدونَ سحبهِ إلى جادّةِ الانحراف، فهو خرّيجُ كليةِ الإدارةِ والاقتصاد، وعُيِّنَ في قسمِ حسابات إحدى الدوائر .
كان (غالب) مهموماً جداً حتى أنَّ أباهُ سألهُ عما بهِ، فقالَ له: - يا أبي، إنَّ ابنكَ (مغلوب) شوَّه سمعةَ عائلتِنا، بأعمالهِ المنحرفةِ، فتؤذيني بسببِ كوننا توأمين- متفلسفاً- الأمرُ بالمقلوبِ تماماً، كما هو مسارُ الحياة، منذُ قتلَ قابيلُ أخاه هابيل.
وأكمل القول، بصيغة من التأمل الشعري، بحسب ما تيسّر له من قراءاتٍ، تنزع إلى الولع بالشعر والشعراء، وبحسب سلوكيّته المستقيمة التي ترفض ظلم الإنسان لأخيه الإنسان- نحن في حومةٍ، نرفع على صهوات جيادنا رايات التغالب.
توقّف الأب أمام عبارة ابنه الأخيرة، ومن ثمَّ تلهّف إلى سؤاله- وما الحلُّ يا بُني؟
- اقترحَ عليه (غالب)- أنشرْ إعلاناً في صحيفتين محليتين، بتغيير اسمينا، ليصبحَ اسمي (مغلوب) بدلاً من (غالب)، كي يتطابقَ الاسمُ مع إيقاعِ حياتي.
وأخي يتبدلُ اسمهُ من (مغلوب) إلى (غالب)، وهو صيّادُ التغالبِ في كلِّ شيء.
ردَّ والدهُ: - فكرةٌ رائعةٌ يا بني ..
تمَّ نشرُ الإعلانُ باسم مديريةِ الجنسية في المدينة، متضمناً فقرةً.. بأنَّهُ على من يعترضُ على هذا التغييرِ في الأسماء التقدمِ إلى هذه المديرية .
في اليوم التالي لنشرِ الإعلانِ، تجمعَ أشخاصٌ عديدونَ، في تلك المديرية، منهم منْ يعترضُ على تغيير اسمِ (مغلوب) إلى (غالب)، وهوياتُ هؤلاء هم ممّن أكلَ (مغلوب) حقوقهمْ، وفي حال تغيير اسمهِ، تصبحُ ملفاتِ القضايا المُقدمَّة ضدهُ غيرَ ذات جدوى، أو تدخلُ في تعقيدٍ طويل. أمّا من كانَ (غالب) ضحيَّتهم فكانوا فرحينَ، لأنهُ ستُعلَّقُ كلُّ ملفاتِهم .
داخ الأب والضابطُ المختصُّ بهذهِ المشكلةِ العويصةِ، لكنَّ الأخير قرّر تأجيلُ البتِّ بتغييرِ الأسماءِ حتّى يقتصَّ ضحايا (مغلوبُ) منهُ، كما يقتصُّ (غالب) من ضحاياه. لكنَّ الاقتصاصَ طالَ أجلهُ، وسيطول ويطول، بحسب نفوذِ المظنون (مغلوب)، وبحسب علاقات مظنوني (غالب). وبات والدهما يُكنّى ( أبو لا غالب
ولا مغلوب).