قراءة في كتاب التوقيعات

ثقافة 2024/06/05
...

 



كمال عبد الرحمن





المقصود في (التوقيعات) هنا ليس التوقيع الذي يقوم به شخصٌ على كتابٍ أو وثيقة بختمه أو برمزٍ يكتبه بخطِّ يده كما هو معروفٌ حالياً، التوقيعات فنٌ أدبيٌّ نادرٌ في الكتابات النثريَّة بدأ مع بداية ظهور الكتابة العربيَّة، ولكنه لم يظهر ويبرز بشكلٍ واضحٍ ودقيقٍ إلا في صدر الإسلام، وذلك لقلة الناس التي كانت تجيد القراءة والكتابة في ذلك الزمن، والتوقيع هو فنُّ الإقناع والإدهاش والجرأة والحكمة، كلمات قليلة يُقصدُ بها أمرٌ عظيم، فالتوقيعات قد تكون (آيَّة تناسب الموضوع الذي تضمنه الطلب) أو (يكون التوقيع بيت شعر) أو يكون (مثلاً سائراً) أو قد يكون التوقيع (على شكل حكمة) وقد يكون في غير ذلك،

وقد ظهرت التوقيعات في صدر الإسلام كما ذكرنا وازدهرت في العصور اللاحقة، ولا صحة لمن يدعي أنَّ أصولها ليست عربيَّة، وهي تعمل ضمن شروطٍ وقواعد، ومن ذلك:

اللغة: ينبغي على كاتب التوقيع أنْ يكون مُلِمَّاً بقواعد اللغة وأصولها وفنونها وقواعدها.

البلاغة: عنصرٌ مهمٌ في بناء التوقيعات.

جمال الخط: جمال الخط يغطي أحياناً على ضعف الكلام وركاكة القول، فقد رفعت الى يحيي بن خالد البرمكي رسالة ركيكة، لكنها كانت تمتاز بجمال خطها، فوقع (الخط جسمٌ روحه البلاغة، ولا خير في جسمٍ لا روح فيه)، فهو يؤكد هنا ضرورة جمال الخط وحسن العبارة في تشكيل الرسالة، لا يستغني أحدهما عن الآخر.

الإقناع: من الضروري أنْ يكتب التوقيع مؤثراً لكي يكون لدى المستلم إقتناعٌ تامٌّ برد الفعل، فلا قيمة لقولٍ من دون فعلٍ منطقي ومعقولٍ يرافقه أو يتبعه.

الحجة: يجب أنْ تكون حجة صاحب التوقيع قويَّة ولا ضعف أو شك فيها وإلا أصبحت وثيقة اعتياديَّة لا معنى ولا قوة وتأثير لها في المتلقي.

الاسلوب: لكل توقيع أسلوبه، فالتوقيع التاريخي يختلف عن التوقيع الأدبي، لذا ينبغي اختيار الكاتب المناسب لكل توقيع.

الآن توضحت الصورة وانكشف المعنى عن معنى (التوقيعات)، فهي عبارة عن ردٍ أو جوابٍ أو حركة أو فعلٍ يقوم به شخصٌ تجاه شخصٍ آخر طلب منه شيئاً، أو فعل أمراً يستدعي الرد، أو حركة أو إشارة أو أي فعلٍ مهما كان يستدعي الجواب أو الرد أو الطلب من شخصٍ آخر، ولتوضيح معنى “التوقيعات” بشكلٍ أدق نأخذ بعض الأمثلة:

الأول: توقيع هارون الرشيد عندما ردَّ على نقفور امبراطور الروم الذي طالبه برد الجزية، فوقع إليه هارون برسالته الشهيرة ((من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام))، هذا هو توقيع هارون الرشيد، وهو من أشهر التوقيعات في التاريخ الإسلامي.

الثاني: فيه توقيعان الأول لهولاكو يهدد قطز سلطان مصر، والآخر هو جواب أو توقيع السلطان قطز ورده على رسالة هولاكو التهديديَّة، جاء في رسالة هولاكو ((من ملك الملوك شرقًا وغربًا القان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء..))، وكان رد قطز وتوقيعه نارياً على هذا الخطاب المغولي الناري، فرد قطز ((فهجوم المنيَّة عندنا غاية الأمنية، إنْ عشنا فسعيداً، وإنْ متنا فشهيداً، ألا إنَّ حزب الله هم الغالبون..))، وواضحٌ أنَّ التوقيعين قد صيغا بحروفٍ من جمرٍ وغضب، كما نلاحظ أنهما قد اعتمدا لفظ الإله من باب القوة والإيمان بالمعركة، وجاء جزءٌ من توقيع السلطان قطز على شكل آية قرآنيَّة “حزب الله هم الغالبون” من سورة المائدة، بينما كان هولاكو بالوقت نفسه يدعي أنهم من جند الله.

الثالث: في موقعة “دومة الجندل” طلب خالد بن الوليد رأي الخليفة أبي بكر الصديق في المعركة، فوقع إليه أبو بكر ((أدن من الموت توهب لك الحياة))!، ومن هنا مشى المثل (اطلب الموت توهب لك الحياة).

الرابع: من التوقيعات الشهيرة في التاريخ الإسلامي، عندما جاء عبد الله بن الزبير الى أمه أسماء بنت أبي بكر، وسألها عدة أسئلة عن رأيها بحرب الحجاج، لكنها بقيت صامتة طوال المقابلة، وفي النهاية وقعت إليه بحكمة عظيمة ((عش كريماً أو مت كريماً)) وذهب هذا مثلاً بين الناس.

الخامس: يقال كان هناك حاكم ظالم يكثر من معاقبة الناس لسببٍ وبدون سبب، وفي يوم وضع شاعراً في الحبس، وبعدة مدة زاهره أشخاص وسألوه عن حاله في السجن فوقع إليهم ببيت شعر صار مثلاً بين الناس:

إنَّ في السجن هدوءاً وأماناً لا نرى القرد ولا القرد يرانا

السادس: قيل إن أحدهم سأل الشاعر البردوني عن ( صنعاء)، فوقع إليه قائلاً:

ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي ؟ مليحة عاشقاها: السلّ والجرب

ويعدُّ هذا البيت الشعري في التوقيعات من أجرأ وأصدق ما قيل في الشعر العربي المعاصر. واشتهر البردوني بخطه الرافض والثائر والمؤثر في القصيدة العربيَّة.

السابع: من التوقيعات المشهورة التي كانت عبارة عن بيت شعر، حيث هدد قتيبة بن مسلم الباهلي الخليفة سليمان بن عبد الملك بالحضور إليه بالجيوش وخلعه من الخلافة، فسخر الخليفة من هذا الكتاب ووقع إليه ببيت شعر يمثل جوابه على الكتاب:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا أبشر بطولة سلامة يا مربع

ووقع الخليفة إليه بكتاب آخر هو آية قرآنيَّة ((العاقبة للمتقين))، ومع أنه وقع بـ((بيت شعر)) ووقع بـ((آية قرآنيَّة))، إلا أن قصده كان يدلُّ على تقليل أهميَّة قتيبة وتهديداته، وانه لا يحسب له ولجيشه أي حساب.

الثامن: ومن توقيعات الحكمة لدينا أمثلة عديدة ، نذكر منها ردَّ الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفاح على جماعة اشتكوا من ضعف الحال وقلة الأرزاق، فوعدهم بالصبر الذي هو مفتاح الفرج ووقع إليهم بكتاب فيه ((من صبر في الشدة شارك في النعمة)) وهذا ما جعلهم يعملون برأيه، ثم طالبوه لاحقاً بالتعويض فزاد أعطياتهم.

والخلاصة أنَّ فن التوقيعات هو فن عربي أصيل، كانت الغاية منه أنْ يكون جواباً مؤثراً وقوياً ومقنعاً في معالجة العديد من المشكلات والأمور المهمة التي واجهها الناس في مختلف الأزمنة، وفي الغالب كانت التوقيعات تأتي من الأعلى الى الأسفل، أي من الحاكم الى المحكوم، أو من ملك الى ملك، وما زالت في زمننا هذا تمثل جانباً مهماً من ردود الملوك والرؤساء، ولعلَّ أشهر توقيع في العصر الحديث هو عندما أجابت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا عن سؤال حول حربها مع الارجنتين في فوكلاند (هل تنتظرون رأي الأمم المتحدة) فوقعت بردها المعروف “نحن لسنا عرباً لننتظر”.