تسطيح الذائقة

ثقافة 2019/06/10
...

نصير فليح
 
 
أسئلة الجمال والذائقة جزء أساسي من حياة الانسان. وهي محور النطاق البحثي النظري المسمى “الأستطيقا” Aesthetics، وفلسفة الفن، فضلا عن دراسات عديدة في المجالات الاجتماعية والجمالية. وهي تشمل انواعا عديدة من الخبرة الجمالية مثل الاحساس بجمال الفن والادب، جمال الطبيعة، الاحساس بالجمال في العلاقات البشرية بين الجنسين، الخبرة الجمالية المتعلقة باشياء الحياة اليومية من ملابس واثاث وصولا الى الاشياء الاكثر بساطة.
 
عصر السرعة وتسطيح الذائقة
من اهم الاشكاليات في هذا المجال هي الاسئلة المتعلقة بنسبية المعايير الجمالية، اي ان لكل عصر ذائقته ولكل جيل معاييره، وبالتالي ليس هناك منطلق اصلا يمكن الاتفاق عليه للتقييم. ولكن هل الأمر بهذه البساطة فعلا؟
واحدة من سمات عصر العولمة والصورة والاعلام، هي السرعة والتسارع المتزايدين، وهذه السرعة تتطلب في وسائل الاعلام والاتصال والتوصيل والفن والاعلان، الحاجة لفورية للتاثير والاستجابة، اذا ما اريد كسب المزيد من المشاهدين او المتابعين او المتسوقين. وهي من سمات ما يسمى ايضا مرحلة “ما بعد الحداثة”. 
وكما يشخص الناقد العالمي الشهير فريدريك جيمسن Fredric Jameson في كتابة الاشهر الذي صدر عام 1991 والذي بات يعتبر مرجعا في مجاله، كتاب Postmodernism: The Cultural Logic of Late Capitalism ( = ما بعد الحداثة: المنطق الثقافي للراسمالية المتاخرة)، ان هذه العملية الجارية ليست بالبراءة التي تبدو عليها او التي تدعيها، وان التسطيح احد سماتها الرئيسية الناجمة من طبيعتها نفسها في عصر ما بعد الحداثة. حيث الحاجة الى تأثيرات فورية، او خطاب سطحي مباشر يتناغم مع الواقع الموجود، بعيدا عن أي نوع من “تحد ثقافي”، اي الاضافة الجادة او الابتكار والتجديد الجادين. ذلك ان الابتكار والتجديد والاضافة، بطبيعتهم، يحتاجون شيئا ولو بسيطا من الجهد والوقت والتمعن من المتلقي لغرض التواصل. بينما مناغمة ما هو موجود اصلا، والعزف على اوتار هي اصلا ماثلة في الوعي الجمعي والذائقة الجمعية، يستجلب عددا اكبر  من الناس بسرعة، مع هبوط النوعية.
 
التسطيح الشامل
هذه العملية جارية على قدم وساق في شتى انحاء العالم، ويمكن ملاحظتها بقوة في العقود الاخيرة وصولا الى وقتنا الحاضر في مجتمعنا العراقي ومجتمعاتنا العربية. وأحد مظاهرها ما لاحظناه من تحولات في فن الغناء مثلا، والادب، والبرامج التلفزيونية والمسلسلات، فضلا عن التجليات المتنوعة للثقافة.
فأن يتحول تقديم الاغنية من النمط المعتاد سابقا الى طريقة “الفيديو كليب”، على سبيل المثال، أمر مفهوم مع تغيرات تقنيات الصورة والاعلام المتطورة. ولكن ان يصبح صوت المطرب نفسه غير مهم للانتشار وكسب اعداد كبيرة من الناس، ولا نوع الاغاني المقدمة، فيعكس معيار القيمة المتراجع وتدهور الذائقة. فما الذي نسمى به حالة لا يعود صوت المطرب نفسه مهما لنجاح الاغنية؟ وكيف امست اصوات لم تكن تصلح سوى ان تكون “كومبارس” في احسن الاحوال الى ان تصبح “نجوما” في عالم الفن باتت تعتبر “عبقريتها” الفنية من البديهيات؟
وهو ما يتجسد ايضا في تفشي الايقاعات الصاخبة، فهي اقدر على خلق استجابة سريعة وفورية لدى المستمع العابر وغير المنتبه، من دون الحاجة الى لحظة توقف واحدة للتمعن او الاصغاء. ولعل المظهر الاجتماعي الابرز هو التجاوب الذي يلقاه فن من هذا النوع من شرائح واسعة مما يسمى باوساط “الثقافة الجماهيرية” او “الثقافة الشعبية”. وما نرمي لفت الانتباه اليه، هو ضرورة التمييز بين المتطلبات الطبيعية التي يفرضها تغير الاحوال والعصر الحالي، وبين التسطيح المقترن بها والجاري معها على قدم وساق.
وهو ما ينطبق على الأدب ايضا، وكثرة الكم على حساب النوع، وكيف ان الثقافة والمثقف والمبدع والعمل الابداعي باتت مرتبطة جميعا بالاعلام بقوة، والترويج الذي يرافقها، لا بالقيمة الفنية الموجودة في ثنايا العمل. وهو ما نلاحظه في حالات كثيرة في مجتمعنا مع “شعراء” و”روائيين” وانتشار الشعبي على حساب الفصيح وطبيعة البرامج التلفزيونية وما شابه. لكن المسالة حتى ابعد من ذلك.
في اللقاء الصحفي الاخير مع جاك دريدا قبيل موته، يشير الى عمليات التسطيح الجارية حتى على مستوى الفكر النظري والفلسفي العالمي، وظهور ما يسميه “الدوكسا” Doxa أو “مثقفو وسائل الاعلام”، الذين تصنعهم لوبيات معينة، وتقوم بتقديمهم والترويج لهم. ويشخص الاختلاف الكبير بين شريحة مثل هذه، وجيله من مفكري الستينات مثلا، الذي تضمن اسماء مثل جيل دلوز، فوكو، جاك لاكان، لفناس، رولان بارت، وغيرهم. ويرى ان الطريق الافضل للتعامل مع هذه الظاهرة ليس مقاطعة وسائل الاعلام هذه وتحاشيها، بل العمل من خلالها لتصويبها من الداخل.
 
التسطيح و”دمقرطة الثقافة”
وهذا هو الحال مع البرامج التلفزيونية والمسلسلات التي لاحظنا الكثير منها مؤخرا. فاذا كان التسطيح جاريا على قدم وساق على مستوى العالم، فانه بالاحرى ياخذ بعدا اكثر تدهورا في المجتمعات الاكثر جهلا والاقل وعيا وثقافة، مثل مجتمعاتنا العربية. فالشعور بالصخب والضجيج نفسه، الذي يقول عنه شوبنهور انه يزداد تنفيرا كلما كان الانسان اكثر تحضرا، يتراجع في مختلف الظواهر حتى غير الفنية منها. مثل الشعور بالضيق من الاصوات العالية، او من دراجة نارية مسرعة هادرة الصوت، او صوت الزعيق والصريخ، سواء في الواقع الفعلي او على الشاشات. انها حالة من تبلد الحس، وتبلد العين والاذن.
ومن منظور كهذا يمكن ان نلاحظ ايضا كيف يختلط مفهوم “دمقرطة الثقافة”، لاشراك اكبر عدد من الشرائح الاجتماعية في انتاجها واستهلاكها، مع ظاهرة التسطيح. ذلك ان ما يجري من “دمقرطة” ليس ظاهرة “محايدة” تقترن بتطور الحياة والمجتمع ومتغيراتهما، بل ان هذه التطورات او التغيرات تقترن بعصر تهيمن عليه مؤسسات الربح العالمية الكبرى، وهي التي توجه دفة ما يجري على المشهد العالمي برمته. وبالتالي، فان ما يجري في نهاية المطاف مرتبط بهذا النزوع الى التسويق ومزيد من الربح، وبالتالي مزيد من التسطيح، ما دام يتماشى مع متطلبات الربح والتسويق من جهة، ويعكس ايديولوجيا لا تريد التوقف والتساؤل عن الاسئلة الجذرية المتعلقة بالانسان ومعنى ما يجري من تحولات في العالم، ومناهضة لأي تعمق 
بطبيعتها. 
فاشراك اكبر عدد من الجماهير المحرومة تقليديا من الثقافة امر مفهوم ومطلوب، ولكن باية صيغة واية شروط؟ وهو ما غاب عن بعض الكتاب العرب من امثال الغذامي، كما يمكن ملاحظته في كتابه المعنون “الثقافة التلفزيونية: سقوط النخبة وبروز الشعبي”، حيث يناقش الظاهرة بمعزل عن طبيعتها العالمية المقترنة بتغيرات النظام السياسي الاقتصادي الجارية في العالم وتوجهاته، والذي يجعل من “دمقرطة الثقافة” توأما لمزيد من التسطيح والتدهور 
بالضرورة.