كيف ينتهي المطاف بكنوز المتاحف للبيع على الانترنت؟

بانوراما 2024/06/06
...

 مارك ويلدينغ
 ترجمة: مي اسماعيل

جرى الابلاغ عن فقدان أو سرقة أو تلف نحو ألفي قطعة من المتحف البريطاني العام الماضي، وهو يواجه اليوم إصلاحا شاملا. لكنه ليس المؤسسة الثقافية الوحيدة التي تواجه صعوبة الاحتفاظ بمجموعاتها، وحينما يحدث ذلك كيف يكون التصرف؟ ولمن يلجأ المتحف؟ حينما يكون الفضاء مكتظا بالكثير من الكنوز، فمن سيُلاحظ إذا اختفت حفنة منها؟ هذا ما حدث بالفعل لسنوات طويلة.. جوهرة هلنستية أو خاتم روماني.. تراكمت أعداد المفقودات بصمت، وبالنسبة لمن يقف خلف تلك السرقات، لعل الأمر كان يجب أن يبدو جريمة غير قابلة للاكتشاف، أو ربما حتى جريمة بلا ضحايا. إذ لم يلاحظ احد ما أن بعض القطع قد فقدت.. حتى جاء اليوم الذي لاحظوا فيه..

متحف في ورطة
أصدر المتحف البريطاني في السادس عشر من آب من العام الماضي إعلانا جاء فيه أن بعض مقتنيات المتحف كانت.. «مفقودة، أو مسروقة أو متضررة»، مضيفا: «جرى إقالة بعض العاملين من كادر المتحف». لم يتضح حجم الجريمة بعد، لكن وصفا مختصرا للقطع المفقودة أشار لأهمية الاكتشاف، مشيرا إلى.. «مجوهرات ذهبية وأحجار كريمة وشبه كريمة وزجاجيات تعود للقرن الخامس عشر ق.م.، حتى القرن التاسع عشر الميلادي». بدا رئيس المتحف «جورج أوزبورن» حريصا على المضي قدما بسرعة، واصفا «الإجراء الحاسم» الذي اتخذته المؤسسة قائلا: «نحن مصممون على تصحيح الأخطاء والاستفادة من التجربة لبناء متحفٍ أكثر قوة». لكن الاسابيع التالية كشفت تفاصيل صادمة.. كان ممن جرى اقالتهم موظف كبير من أُمناء المتحف (كُشِف لاحقاً ان اسمه د. «بيتر هيغز») عمل سنوات طويلة في قسم الآثار اليونانية والرومانية بالمتحف.
كشف أحد تجار الآثار أنه قرع جرس تحذير في شهر شباط من العام 2021 بعدما اشترى قطعا أثرية من موقع «إي باي-eBay” للمبيعات بأسعار قليلة بشكل يثير الدهشة، وبعدما خامره الشك حول هوية البائع. دفعت مخاوفه المتحف للبدء بتحقيق داخلي، قاد بشكل خاطئ إلى نتيجة ان لا شيئ مفقود هناك. كشف المدير أوزبورن لاحقا عن خسارة نحو ألفي قطعة، فتجددت مرة أخرى خلافات طويلة الأمد حول إعادة الكنوز ((إلى أوطانها الأصلية))، بما فيها منحوتات البارثينون (اليونان) والمنحوتات البرونزية من بنين. اضافة إلى جدلية جديدة حول ألواح المذبح الإثيوبية المقدسة، الموضوعة قيد الخزن منذ 150 عاما. استقال مدير المتحف ثم استقال نائبه أيضا بعد عدة أشهر، وبدا أن المتحف  مؤسسة بريطانية أخرى متورطة في أزمة.

قاعدة بيانات للمفقودات
لا تعد سرقات المتاحف جريمة غير مسبوقة، كما يقول «رينيه ألونج» كبير مفتشي المباحث في وحدة الجرائم الفنية الخاصة بشرطة برلين: «شخصيا.. لم أشعر بالدهشة، إذ يتكرر اختفاء القطع الثمينة من المتاحف أو الارشيفات، ويصبح العاملون محط شك». وكان أمين مكتبة كبير من المكتبة الوطنية السويدية قد انتحر في العام 2004 بعد أن تبين أنه كان يسرق كتبا نادرة. وخلال العام 2007 سُجِنَ رجل روسي بعد الحكم عليه بالتواطؤ مع زوجته (وهي أمينة بمتحف الأرميتاج في سان بطرسبرج) لسرقتهما أكثر من مئتي قطعة أثرية. ولم تنكشف الجريمة حتى ماتت الزوجة جراء نوبة قلبية أثناء تدقيق المجموعات الأثرية. وصف الاعلام الروسي القضية بأنها.. «سرقة القرن»، غير مُدركين أن سرقة أكبر منها كانت تجري في لندن.  
الغريب في سرقات الفنون أنه من الصعب جدا على الأغلب إستعادة القطع المسروقة. كما أن تقدير معدلات الاسترداد مهمة مستحيلة، فهناك مئات الآلاف (وربما الملايين) من الأعمال الفنية المسروقة التي لم يجرِ استردادها مطلقا. وقاد ذلك إلى نشوء مهنة مثيرة للاهتمام وغريبة: مُحقِق  الفنون.
يقع مكتب تسجيل «القطع الفنية المفقودة-Art Loss Register” (اختصارا- “ALR”) بلندن في شارع خلفي هادئ قرب كاتدرائية سان بول، يشير اليه اسم مكتوب على ورق أبيض، مُعلّق على جرس الباب بشريط لاصق. وفي مكتب يفتقر لشروط الراحة يعمل المُحققون لحل قضايا ذات أهمية وطنية بالغة. جرى استدعاء المحققين للمساعدة بحل قضية المتحف البريطاني، بالاشتراك مع “لجنة خبراء دولية” للمساعدة في التحقيق حول السرقات. يقول مكتب تسجيل “ALR” أنه يُدير.. “أكبر قاعدة بيانات عالمية خاصة، للقطع الفنية والمقتنيات المفقودة أو المسروقة أو المنهوبة”. يستذكر مؤسس المكتب “جوليان رادكليف” البداية قبل أكثر من ثلاثين عاما، وبحسب روايته فإن خط عمله السابق كان يتضمن إجراء مفاوضات الاختطاف لصالح شركة لويدز في لندن. وخلال محادثة مع أحد مديري دار مزادات سوثبي، يتذكر أنه سُئل: “ألا تستطيع أن تفعل شيئًا بشأن الأعمال الفنية المسروقة؟” حينها كان الحل الذي قدمه رادكليف يبدو عاديا: تأسيس قاعدة بيانات، حيث يمكن لضحايا السرقات الفنية تسجيل ما فقدوه، ثم تستخدم تجارة الأعمال الفنية قاعدة البيانات تلك كما ينبغي للتحقق من مصدر القطع المعروضة للبيع. في البدء عارض عالم الفنون تلك الفكرة، ويستذكر رادكليف كيف ألقى كل من تجار الفن ودور المزادات اللوم على الآخر في المبيعات غير المشروعة، قائلين إنهم لا يستفيدون كثيرا من قاعدة بيانات لأعمال فنية مفقودة. لكن رادكليف ثابر لتحقيق الأمر، وغطى لمدة عقود خسائر الشركة ((المالية)) من جيبه الخاص. في النهاية تجاوب عالم الفنون، واليوم هناك نحو سبعمئة ألف قطعة فنية مُدرجة في بيانات “ALR”، وهو ضعف الرقم المُسجّل منذ عقدٍ مضى. ساهمت الدعاية المُصاحِبة لعمليات الاسترداد المهمة بتعزيز سمعة المكتب، وإلى جانب التحقق من مصدر ((القطعة الفنية))، أثبت رادكليف براعته في التفاوض على إعادة الأعمال المسروقة، مثل لوحة “غلاية وفواكه- Bouilloire et Fruits” لبول سيزان، التي بيعت عام 2019 مقابل 59 مليون دولار.

التحقيق ضمن مناطق رمادية
ظهر كتاب بعنوان «الفن المفقود: قضايا مكتب تسجيل القطع الفنية المفقودة، ج1» كشف عن بعض أهم قضايا رادكليف ومغامراته حول العالم لعقد اجتماعات سرية في المطارات والتخفي داخل دور المزادات غير الشرعية. تحوي صفحات الكتاب جدليات وإشارات غير مباشرة إلى الجدليات حول أساليب رادكليف.. «ما هي قواعد السلوك التي تنطبق للتصدي ضد الإجرام؟.. و»إن المصالح التجارية لـ»ALR” وأهداف إنفاذ القانون الرسمية لا تتوافق دائما بشكل مثالي”.  يُقدّم ضباط القانون تقييمات أكثر فظاظة لعمل رادكليف، ويشير المنتقدون إلى إسلوب “ALR” بدفع المكافآت مقابل المعلومات أو إعادة الأعمال، وهي ممارسة يقولون إنها تحفز على السرقة. يعترف رادكليف أن عمله يتضمن “مناطق رمادية” بين الحين والآخر، وان الشرطة لا تُقدّر جهوده دائما، رغم قوله إن ذلك يتغير: “بدأوا الآن يعترفون بما داومنا على قوله منذ وقتٍ طويل، وهو- اذا لم تكن الشرطة قادرة على توفير الدعم لضحايا الجريمة، فعليها أن تجد شخصا آخر يستطيع ذلك”.
قد يكون من المنطقي التساؤل كيف لا يتمكن المتحف من ملاحظة اختفاء بعض القطع الفنية فيه.. يكمن جزء من المشكلة بلا شك في حجم المجموعة المتحفية، إذ يحتفظ المتحف البريطاني بنحو ثمانية ملايين قطعة، لن يذهب بعضها للعرض العلني إطلاقا. تقول “إيرين ل. تومسون” أستاذة جرائم الفن بكلية جون جاي للعدالة الجنائية (جامعة نيويورك): “أي شخص يفكر بالأمر نحو خمس دقائق سيعرف أنك لن تتمكن من بيع شيء سرقته من جدار المتحف.. اللص الأكثر ذكاء بقليل سيسرق من المخزن”. لذلك فمن الأسهل اِلتقاط  القطع ذات القيمة والمستوى الأقل، وهي أسهل في البيع. وهناك مزاعم أن العديد من العناصر المفقودة بالمتحف البريطاني جرى بيعها عبر الإنترنت مقابل بضعة جنيهات فقط.. فهل حقا تنتقل القطع الأثرية عبر مواقع البيع على الانترنت بأسعار أقل من كلفة وجبة طعام سريع؟ تقول تومسون: “أنظروا بأنفسكم..”. أظهر البحث عن “التحف اليونانية” أكثر من خمسة عشر ألف نتيجة، فهناك “سيف برونزي قديم” معروض للبيع بسعر يزيد عن ثمانية جنيهات إسترليني بقليل (إضافة لضريبة القيمة المضافة والبريد). وهناك “خاتم برونزي إغريقي قديم، يعود إلى حوالي سنة 300 ق. م”، وبسعر عشرين جنيها. أما بالنسبة للعين غير المُدربة، فمن المستحيل معرفة ما اذا كان هذا “قمامة” تتنكر بشكل كنز، أم آثارا لا تقدّر بثمن يباع بأجرٍ زهيد.. ولعل البائعين والمشترين لا يحتاجون لمعرفة الحقيقة، كما تقول تومسون: “لا يميل الناس لطرح الاسئلة حينما يشترون الأشياء من على مواقع الانترنت”. وقد إمتنع موقع “إي باي-eBay” عن إجابة بعض الاسئلة التي طرحها كاتب المقال، قائلا إن بيع الآثار غير الشرعية محظور في الموقع، كما شجّعَ المستخدمين على الاتصال بالجهات القانونية لدى وجود شكوك.

سمعة المؤسسة الثقافية
يرى “ كريستوفر مارينيلو” (محامي، المستشار العام السابق في “ALR” وصاحب مكتب تحريات) بأن العديد من مواقع المبيعات تلعب دورا في عملية ترويج الآثار غير مشروعة التجارة، وأن الكثير من المؤسسات الاخرى والأفراد يُسهّلون ايضا تلك النشاطات الاجرامية، قائلا: “أتعامل مع أشخاص سيئين في عالم الفن، وأول ما يقومون به حين تكون القطعة مسروقة هو “جعلها تختفي..”. هناك عشرات القضايا التي يقال فيها للتاجر إن القطعة مسروقة، ليقوم بإعادتها إلى “الشخص الغامض” الذي جلبها اليه، ولن نراها ثانية أبداً..”. يعتقد مارينيلو أن المتحف البريطاني ارتكب خطأً فادحا بنشره تفاصيل عدد قليل فقط من القطع المفقودة علنا.. قائلا: “في الاحوال الاعتيادية نكون (مكاتب التحريات) أول من يعرف بسرقة القطع ليكون لنا سبق التحرُّك”، ولكن باِختفاء عدد كبير من القطع قد لا يعرف المشترون ما الذي يتعاملون به، وهنا لن يكون من العدل إتهامهم بالتعامل غير المشروع. قد يكون إحجام المتحف عن نشر تفاصيل كل من القطع المفقودة أمرا حاسما، ولعله ببساطة جهلا بما هو مفقود فعليا.. وقد يكون العديد منها غير مُوثّق بشكل دقيق، كما يقول مارينيللو: “لكي نتتبّع القطع الفنية المسروقة لا بد لنا أن نتمكن من التعرّف عليها، والقطع غير المُوثقة قد تصبح مفقودة إلى الأبد..”.  يُعوّل المتحف البريطاني على بعض حسن النية من أولئك الذين يكتشفون حصولهم على قطع من تلك المفقودات. تقول “دونا ييتس” الأستاذة المشاركة بجامعة ماستريخت وخبيرة تجارة الآثار غير المشروعة: “عموما يكون مقتنو التحف الأثرية الصغيرة أناسا يهتمون كثيرا بالتاريخ، ولا يريدون أن يحتفظوا بقطع مسروقة. لكن الامر يتطلب الوصول إلى أولئك الاشخاص والتواصل معهم.. هذا أمرٌ يتطلب وقتا كبيرا، فإلى أي حد على  الشرطة أن تقدم الوقت والمال لتقصي مئات القطع المسروقة ذات القيمة المنخفضة؟” أعلن المتحف البريطاني استعادة نحو 350 قطعة حتى الآن، وتقصي أثر نحو ثلاثمئة أخرى. وهذه مجرد بداية، كما يقول مارينيلو: “تستمر بعض قضايا الاستعادة بضع سنوات، وقد تمتد إلى عقود..”. ومع ذلك البحث يُطرح تساؤل كيف اختفت تلك القطع أساسا. يقول “أندريه آلونج” محقق سرقات الفنون من شرطة برلين إن التحقيقات يجب أن تشمل ايضا.. “نظرة متفحصة للإجراءات الأمنية بالمتحف البريطاني”. كشف المتحف البريطاني أواخر العام الماضي بعض ما توصل اليه التحقيق الداخلي عن السرقات، متعهدا بالتوثيق الشامل لمجموعات مقتنياته خلال السنوات الخمس المقبلة وتطبيق إجراءات امنية جديدة.. فهل سيكون ذلك كافيا؟ للسمعة أهمية كبيرة في عالم الفن، والمؤسسة التي تقدّم نفسها بصفتها حارسة كنوز العالم تحتاج إلى إثبات قدرتها على الوفاء بهذا الوعد.

صحيفة الأوبزيرفر البريطانية