باقر صاحب
هل يمكن ذلك، أي القول بعالمٍ جديدٍ يتشكّل، بعد أن تضع حرب دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني أوزارها؟ هناك معطياتٌ فلسطينيةٌ وإقليميةٌ ودولية، تشير إلى ذلك.
فلسطينياً، قدّمت هذه الحرب أروع صور الصمود الفلسطيني، فبالرغم من الإبادة الوحشية للفلسطينيين، التي تتعمّد دولة الاحتلال استمرارها ليل نهار، في مسعى استراتيجي صهيوني لمحو كلّ ما هو فلسطيني، بالرغم من كلِّ هذا، تواصل حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، مقاومة المحتلّ الغاشم، وقدّمت تجربةً لا مثيل لها في حرب المدن.
هذا إن دلّ، إنّما يدلّ على أنَّ هذا الكيان الغاشم لن يحقّق أهدافه بالقضاء التام على حركة المقاومة الفلسطينية، بل أنَّ الأخيرة أصبحت ملهمةً لحركات المقاومة في العالم، تلهمها بالإصرار والأمل في مقاومة الطغيان، أينما وُجد في أنحاء الكرة الأرضية.
يرافق ذلك اشتداد المجابهة بين” حزب الله” في الجنوب ، وهذا الكيان المسخ، بالقصف المستمر بالصواريخ للمواقع العسكرية في دولة الاحتلال، فضلاً عن شجاعة الحوثيين في اليمن، وسيطرتهم على حركة الملاحة في البحر الأحمر، واستهداف أيّ سفينةٍ غربيّةٍ متجهةٍ إلى الكيان الصهيوني مُحمّلةً بكلّ ما يتطلّبه الدعم اللوجستي لهذا الكيان، بالرغم من كلّ ما تقوم به الطائرات الأميركية والبريطانية من قصفٍ صاروخيٍّ مستمرٍّ لمواقع الحوثيين.
وهناك حراكٌ في دول الجوار الفلسطيني، ينبئ أنّ تغيراتٍ قادمةً ليست في صالح الكيان، فسوريا تسعى إلى استعادة هضبة الجولان، وإعادة النازحين منها، والأردن، الملتزمة باتفاقية تطبيعٍ مع الكيان المحتل قدّمت مرافعةً شفويّةً في المحكمة الجنائية الدولية، لصالح إدانة هذا الكيان، ومصر، التي هي الأخرى ملتزمةٌ باتفاقية تطبيع معه ترفض إيواء اللاجئين الفلسطينيين في صحراء سيناء، كما تروم دولة الاحتلال.
إذاً، الرياح الاقليمية، شرعت بالهبوب ضدّ هذه الدولة المارقة، وأحسبها ستقوى شدّتها في قابل الأيام.
وهناك داخل الكيان، أيضاً تمضي الأمور في غير صالحه، لجهة هجرة 500 ألف من الصهاينة إلى ألمانيا، في سابقةٍ خطيرةٍ سجّلتها مسيرة الحرب ضدّ غزّة، إذاً هناك عدم الشعور بالأمان، يتنامى في النفوس هناك، هذا فضلاً عن الغضب المتصاعد في الداخل إزاء تأخّر عودة المُحتجزين بسبب عجرفة حكومة الحرب، وتطرّفها وعدم سماعها لأصوات احتجاج رعاياها، فضلاً عن الأصوات الدولية الداعية لقبول مقترحات وقف إطلاق النار، مع تمسّك رئيس وزراء حكومة الحرب نتنياهو بالقضاء النهائي على المقاومة، ومن ثمّ يتمكن آنذاك من إعادة المحتجزين، مهتمّاً بنصره السياسي أولاً، ولا يعير بالاً للضحايا، حتى من أفراد كيانه، بل هناك وزيران يمينيان متطرّفان في حكومته يهدّدانه بالاستقالة إذا ما وافق على وقف الحرب من دون القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية في غزة ورفح.
ويرسم محلّلون مصيراً أسود لمستقبل هذا الكيان، إلى حدّ التنبؤ بزواله.
دولياً، أشعلت صور الإبادة التي تعرضها القنوات الفضائية بشكلٍ متواصل، الرأي العام العالمي، وخاصّةً في أميركا ودول أوروبا، وانطلقت احتجاجاتٌ ومظاهراتٌ غير مسبوقة، تضامناً مع أهل غزة وكلّ فلسطين، ومنها حراك طلبة الجامعات الأميركية والأوروبية.
والأمر، الذي نؤكّد عليه، القمع البوليسي الذي وُجّه ضدّ هذا الحراك الاحتجاجي، وهنا بدأ التساؤل وبقوّة، أين الديمقراطية الغربية إذاً، من فضّ الاعتصامات الجامعيّة بالضرب والاعتقال، فهي اعتصاماتٌ لطلبةٍ عُزّل، لهم الحقُّ في التعبير عن الرأي، الذي هو أساس كلِّ نظام ديمقراطي.
ومن ثُمَّ هناك نقطةٌ مهمة، وهي أنَّ غضب الشعوب الغربية في أميركا وأوروبا، من حكوماتها، التي تدعم الكيان المحتل بقوّة، مهما تمادى في سلوكه الوحشي ضد الفلسطينيين، لأجل اقتلاعهم من أرض اجدادهم وأبنائهم، هذا الغضب ستنعكس نتائجه على أرض الواقع في هذه الدول، حينما تُجرى الانتخابات، لربّما ستشهد حكوماتها انحسار شعبيّتها بوساطة صناديق الاقتراع، وصعود قوى جديدةٍ فيها.
من هنا يمكن القول أنّ عالم ما بعد حرب غزّة، ليس كما قبلها.
ويمكن أن نضع ضمن حسابات التغيير في عالم ما بعد الحرب، اعتراف ثلاث دولٍ أوروبيّةٍ رسميّاً، بتأريخ
28 - 5 - 2024، بالدولة الفلسطينية، وهي إسبانيا، أيرلندا، النرويج.
هذا الاعتراف توَّجه الصمود الفلسطيني الخارق والتضامن العالمي رسمياً وشعبياً مع الفلسطينيين. وفي سياق تعاظم العزلة العالمية للكيان الصهيوني، قرّرت دولٌ أخرى وقف صادرات السلاح إليه، ومنها هولندا وكندا، هذا فضلاً عن قرار محكمة العدل الدولية، بإلزام الكيان الغاصب بوقف الحرب، ما يمنحنا بأن هناك إشارات واقعية إلى تفكّك المركزية الغربية، وصعود دولٍ أخرى، مثل جنوب أفريقيا، إلى لائحة صنّاع القرار السياسي العالمي، عبر إصرارها على وجوب معاقبة الكيان الصهيوني على جرائمه الوحشية بحق المدنيين الأبرياء في فلسطين.
ليس من صالح هذا الكيان تجاهل القرارات الدولية والتمادي في الحرب الوحشية، وكلّما مرّتِ الأيّام على هذه الحال، سنصبح على عالمٍ جديدٍ لما بعد الحرب أكثر وضوحاً.