د. علاء هادي الحطاب
أتيحت لي أكثر من فرصة للذهاب إلى موقع جريمة سبايكر في ما يُعرف بالقصور الرئاسيَّة في محافظة صلاح الدين بمدينة تكريت، وشاهدت آثار الدماء التي لم يأفل لونها واحمرار وجع الغدر بها حتى الآن، ومما لا شك فيه أن جريمة سبايكر هي إحدى أبشع جرائم التأريخ التي تمظهر فيها الغدر بكل ما حملته الكلمة من معان ودلالات كشفت عن مدى خسة ونذالة الفاعلين في استدراج شباب مراهقين عزل تحت التدريب لا يعرفون جغرافية المكان ولا سايكولوجيا المكين، ومن ثمّ الإيغال بإذلالهم وقتلهم بأبشع طريقة، حتماً وسط تخاذل وتراجع وخيانة الضباط والأفراد المسؤولين عن تدريب هؤلاء الشباب.
قيل سابقاً إن العرب تقتل وتقتل وتتحمل أنواع الأذى من أجل عدم تسليم ضيفها إذا طلبه خصمٌ أو عدوّ له، فضلا عن المستجير بها ومن هو في كنفها، والمعروف أن مكان الحادث كان ذا طابع عشائري قبل أن يكون مؤدلجاً فكرياً وعقائدياً، وما حصل في هذه الجريمة أثبت أن رغبة الإجرام والفتك والغدر كانت حاضرة تنتظر لحظتها لتنفيذ وتحقيق أهداف مكامن الشرِّ بداخل من يحملونه، والملاحظ لاحقاً أن أغلب منفذي تلك الجريمة كانوا شباباً بل إن بعضهم عند سقوط النظام المباد ربما كان طفلا صغيراً، فكيف تحوَّل بعد اشتداد عوده إلى مجرم لديه قدرة القتل والغدر بهذه الوحشية لولا التربية والتنشئة الاجتماعية التي غذته في سبيل الاستعداد لهذه اللحظة.
بالمقابل كانت هناك إضاءة مشرّفة قابلت «الغدر بالغيرة»، إذ استطاعت (أم قصي) المرأة العربية أن تنقذ أكثر من خمسين شاباً من موت محقق لحق بأقرانهم وتحمَّلت مجازفة حدوث أبشع أنواع التعذيب والقتل لها ولعيالها إن أكتشف أمرها، لكنها عملت بحقيقة ما تربّت عليه من قيم ومبادئ في إجارة المستجير وعدم الغدر بالضيف.
لم تتحدث لنا المؤسسات المعنية حتى الآن عن الأعداد النهائية لهؤلاء الشباب المغدورين، وطبعاً بحكم طريقة القتل البشعة ومكان تنفيذها فإن أغلب رفات الشهداء الضحايا لم يتم العثور عليها، لكنَّ شواهدها فضلاً عما ظهر من مقاطع مصورة تؤكد حالة التآمر والخسة و «ولية الغمان» التي مارسها القتلة المجرمون.
يبقى في إطار الحديث عن هذه الجريمة أن نذكر بأمرين أجدهما مهمين اليوم، الأول هو وضع ستراتيجية فاعلة للقضاء على تنشئة الأجيال على الثأر والغدر والعنف والتطرّف كي لا تتكرر هذه الجريمة في سنوات وحقب لاحقة وتجفيف منابع الطائفية بكل أشكالها، والأمر الثاني هو «تخليد الذكرى» وما يلتحف بهذا العنوان من غايات وأهداف، فأقل واجب يمكن تقديمه لهؤلاء المغدورين الشهداء هو تخليد ذكراهم.