رعد أطياف
الغرائز والانفعالات لا يمكنها أن تسهم في تأسيس هيكلاً إدارياً وقانونياً للدولة الحديثة. والإشكالية الأكبر لا يتمتع السياسيون ببصيرة كافية، للوقوف على هذه الحقيقة الأساسية والخطوة الجوهرية لكل عمل سياسي نبيل. لا زلنا تحت وطأة «الشخصية الكارزمية، أو بتعبير واضح ودقيق، لا زلت عقدة الشخصية الكارزمية تهيمن على طرق سلوكنا وتفكيرنا».
لقد كان حنا بطاطو مصيباً حين قال ما مضمونه، ثمة نفور غريزي لدى العراقي تجاه العمل المؤسسي وميل نحو الشخص.. تتجلى تلك الحقيقة التاريخية بوضوح، سواء في الماضي أو في وقتنا الراهن في فكرنا السياسي وسلوكنا الاجتماعي.
لا مفاضلة بين الماضي والحاضر من حيث التأثير؛ فالأول يندفع ويتراكم، ومن ثم يتكامل في الثاني، ليشكل لنا هذه التركيبة التي نحن عليها الآن. ما الاثر الذي يمكن ان يترتب بعد غياب المؤسسة؟ يكفي ان ننظر لوضعنا من لحظة 1958 إلى 2003 وسيتضح جلياً القدرة الجبارة والمهولة التي تختزنها الشعبوية! وكيف بإمكانها أن تحيل الواقع إلى حطام، بمعنى أن اللاحق لا يمكنه استكمال الرحلة اعتماداً على السابق، لان هذا الاخير سيرى صحراء قاحلة تتحكم بها الغرائز والانفعالات.
بعبارة اخرى غياب شبه كلي للمؤسسة، وتغدو الدولة شكلاً بلا مضمون، والهياكل الادارية والقانونية صوراً ذهنية أكثر من كونها وقائع فعلية معاشة في التفكير والسلوك، وبالتالي تتحول هذه الظاهرة إلى جزء أصيل من ثقافة اجتماعية، تنعكس على التواصل السياسي الحقيقي بين الناخبين وممثليهم. فلا نعجب حين نرى الاستقطاب على أشدّه، والحسم النهائي بالنسبة لجمهور الناخبين، وهو خيار الشخص، أوالطائفة والقومية، مقابل المؤسسة. إنها مؤشرات خطيرة بلا شك، حيث فقدان الثقة شبه الكامل بالمؤسسات الديمقراطية والحريات، واستغلال المشاعر الشعبية والخوف من الآخر، وتغدو على إثرها كل تعبئة شعبية تكتسب شرعيتها بشكل عفوي بلا مساءلة أو نقد، ذلك أن الأهواء العنيفة تتربع على رأس الهرم.
ومن ثم لا يغدو الأمر التالي مفاجئة أو صدمة، أعني به الرفض التدريجي للتعددية. إن بيئة كهذه هي بالتأكيد بيئة خصبة لكل أشكال التطرف السياسي، وتعزز نشوب الأزمات السياسية والاجتماعية.
يلعب المال السياسي هنا دوراً محورياً، لا سيما الدول التي يشكل الريع النفطي واردها الأساس، فتغدو كل خطوة للتنمية والاستثمار تحديا كبيرا قد يقترب من حكم الاستحالة إلا بضمانات كبيرة، ستكون إحداها بالطبع نخبة سياسية مهمومة بالصلح العام، تؤمن بالديمقراطية والتعددية والازدهار الاقتصادي على أسس علمية صحيحة.
وبالتزامن مع صعود نجم مواقع التواصل الاجتماعي تنامت قوة الشعبوية السياسية أكثر من ذي قبل، فقد بدت معظم إشكالياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية تسقط في فخ التبسيطية، وبدت الحلول البسيطة التي يطلقها نجوم الميديا، لا مراكز البحث والدراسات الرصينة، تهيمن على المشهد السياسي والاجتماعي. لا أدعي بوجود من يعمل بهذه الحلول التبسيطية من النخب السياسية، لكنها تجبرها بشكل وبآخر للانسياق مع ردود الأفعال الشعبوية، فينطلق السياسي تحت هذا التأثير بتصريحات خالية من المضمون، مثل أزمة الكهرباء التي مضى عليها أكثر من عقدين، وكلنا نتذكر دزينة التصريحات التي مرت علينا في غضون هذا العمر الطويل، أو مشكلة الجفاف وقلة مناسيب دجلة والفرات، إذ لم نتلمّس حلولاً عملية سوى
التصريحات.
ولكوننا مهمومين بواقعنا وبوصفنا مواطنين نحسب للمستقبل، فإنا نخشى من شيوع الشخصنة بدلاً من البرامج، والتركيز على السياسيات والحلول الحقيقية، والغرق في أدبيات الخطب العاطفية. ونخشى كذلك من ضعف المؤسسات والتوازنات وتركيز السلطة تحت قيادة واحدة، وإرباك السلطات الثلاث.
إننا نخشى من أن تكون الشعبوية بمرور الوقت هي البديل السحري للديمقراطية والاستقرار السياسي. فبوصفنا مواطنين، مرة أخرى، يتطلب منّا الحذر والمراقبة لتفعيل المؤسسات الديمقراطية، ذلك أن عمر الشعبوية قصير، ونهاياتها مروعة