العشائر والشعائر.. الفزعة العصبيَّة والنزعة الاستعلائيَّة

آراء 2024/06/12
...

ثامر عباس

كأي جماعة (عصبية)، فان (العشيرة) دائما ما تكون بحاجة ماسة لممارسة بعض (الشعائر) و(الطقوس) التي من شأنها الحفاظ على كيانها الاجتماعي، وتعزيز الروابط الأسرية والصلات القرابية والعلاقات الاجتماعية، بحيث تشدّ الجميع إلى  ثوابت أروماتها التاريخية والثقافية والقيمية والرمزية واللغوية.
في المجتمعات التي تنام وتصحو على إيقاع عنف الجماعات الأصولية المنفلت من عقاله، واستشراء نوازع العدوانية للأصوليات والعصبيات المتكارهة والمتباغضة، فان بحوزة كل جماعة سوسيولوجي أو مكون انثروبولوجي مجموعة من الممارسات الشعائرية والأنشطة الطقوسية، التي أشبه ما تكون بالفروض الدينية واجبة الطاعة وإلزامية التنفيذ.
ولأن طبيعة العلاقات داخل مؤسسة (العشيرة)، لا تعتمد في تلبية ضروريات تكوينها، وتأمين شروط ديمومتها على مصدر خارجي يفرض عليها خصائص القيم وأنماط السلوك التي ينبغي اعتمادها. فهي عادة ما تميل إلى التماسك الداخلي بين أعضائها والتخادم البيني على مستوى مكوناتها، ليس فقط لدرء المخاطر الخارجية التي تهدد وجودها الاجتماعي وكيانها الحضاري فحسب، وإنما لضمان استمرار تداول العادات والأعراف والتقاليد المتوارثة التي تمدّ جسور هويتها الحضارية والثقافية بين أجيالها السابقة واللاحقة أيضا.
وكأي جماعة (عصبية)، فان (العشيرة) دائما ما تكون بحاجة ماسة لممارسة بعض (الشعائر) و(الطقوس) التي من شأنها الحفاظ على كيانها الاجتماعي، وتعزيز الروابط الأسرية والصلات القرابية والعلاقات الاجتماعية، بحيث تشدّ الجميع إلى  ثوابت أروماتها التاريخية والثقافية والقيمية والرمزية واللغوية.
ولعل من أبرز تلك (الشعائر)، التي تحرص (العشائر) كل الحرص على تكريسها في الوعي وديمومتها في السلوك، هي الاعتزاز بكل ما يعبر عن خصوصيات العشيرة المعنية (أصول حتى ولو كانت مختلقة، ومواريث حتى ولو كانت ملفقة، وسرديات حتى ولو كانت مصطنعة، والتفاني بالدفاع عن قيمها حتى ولو كانت عصبية، والذود عن أعرافها حتى ولو كانت استعلائية، والمنافحة عن رموزها حتى ولو كانت أسطورية.
ولعل هذه المظاهر من (الاعتزاز) المتطرف و(التفاني) المتعصب قمينة باستتباع مجموعة من التصورات والتواضعات والممارسات المستهجنة أخلاقيا وحضاريا وإنسانيا، يمكن إدراجها ضمن اصطلاحين أساسيين يفضي أحدهما إلى  مجال الآخر هما؛ (الفزعة العصبية) و(النزعة الاستعلائية)، مع ما يتمخض عنهما من تداعيات اجتماعية وتبعات نفسية غالبا ما كانت عوامل هدم لكيان المجتمع ومسخ لشخصيته ونسخ لهويته.
ففيما يتعلق بخاصية (الفزعة العصبية) التي تعتبر حجر الأساس في بناء المكون العشائري، فقد ساهمت هذه الخاصية الانثروبولوجية على امتداد تاريخ المؤسسة (القبلية/ العشائرية) في إذكاء الروح العدوانية بين أفراد العشيرة الواحدة لأسباب تتعلق بالأدوار والوظائف والمكاسب من جهة، وفيما بين القبائل والعشائر المختلفة لأسباب تتعلق بالمصالح الاقتصادية والوجاهات الاجتماعية والزعامات السياسية من جهة أخرى.
واللافت في الأمر ان القاسم المشترك بين الحالة الأولى والحالة الثانية، هو الاحتكام إلى  لغة (القوة) واستخدام (العنف) بين المتنافسين والمتخاصمين، بصرف النظر عن أهمية الأسباب الباعثة لهذا التصرف أو قيمة الدوافع المؤطرة لأنماطه وأبعاده.
لا بل ان الطرف الذي يسعى لحل مشاكله وتسوية أموره عن طريق (القانون) باللجوء إلى  مؤسسات الدولة، لا يعاب فقط في رجولته ويطعن في كرامته من جانب أٌقرانه فحسب، بل وكذلك يفقد حقوقه كفرد وتهدر قيمته كانسان.
من منطلق ان الفرد الذي لا يأخذ (حقه) بقوة يده، ولا يفرض (هيبته) بصلابة إرادته، لا يعد – وفقا للقيم والأعراف العشائرية - رجلا”يستحق الاحترام والاعتبار.
وحين يعيش الفرد (العشائري) في بيئة اجتماعية من هذا النمط العدواني والاقصائي، لا يمكن إلاّ أن يكون شديد الاعتداد بنفسه وكثير التحمس لعشيرته من جهة، وشديد الازدراء لغيره وكثير التحسس إزاء آخره العشائري من جهة أخرى.
ولعل هذه الحالة الشعورية المليئة بالزهو البدائي والمفاخرة الاستعراضية كفيلة بتضخيم أناه (المستقوي) بغيره، وتعظيم نزوعه (المستعلي) بما ليس فيه، على كل من يتموضع في الجانب الآخر من طيف الانتماء التحتي (العشائري) والولاء الفرعي (القبائلي).
بحيث لا يني إحساسه الذاتي يتوسع ويتعمق إزاء قيمة الحدود المكانية والفوارق الاجتماعية والحواجز النفسية الفاصلة بين (النحن) الأفاضل و(الهم) الأراذل، والتي رسختها في وعيه وأوجبتها في سلوكه تلك البيئة المتشظية والمستقطبة.
وكما في كل حالات (المفاضلة) العصبية (الاثنية والقبلية والمذهبية والمناطقية) التي تستبطن شعائرها وتجتاف قيمها الجماعات العشائرية، فان عواقب هذا الضرب من مشاعر (الاستقواء) و(الاستعلاء) كفيلة بإجهاض قيم التعايش السلمي بين المكونات السوسيولوجية والانثروبولوجية من جانب، والإجهاز، من ثم، على كل ما يمت إلى  روح (المواطنة) الحضارية بصلة من جانب ثان.
وهو ما يؤدي، في نهاية المطاف، إلى  جعل المجتمع بمثابة بركان يغلي بالكراهيات المدمرة ويتفجر بالصراعات المهلكة، التي كان العراق – ولا يزال – مسرحا لها طيلة العقود الماضية.
ولهذا فان ما يشاع في الندوات التلفزيونية واللقاءات والمؤتمرات والقنوات الفضائية، حول دور (العشائر) العراقية في توطيد السلم الأهلي وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، لا يعدو أن (فرية) لا أساس لها في الواقع.
ذلك لأن (العشائر) ما كانت يوما – ولن تكون في المستقبل – مصدرا”لترميم المتصدع في بنائنا الاجتماعي، وترصين المتخلع في كياننا الحضاري.