سر وغموض حدائق بابل المعلقة

بانوراما 2024/06/23
...

 جون ستيل

 ترجمة: شيماء ميران


غالبا ما يُحتفى بجنائن بابل المعلقة كونها واحدة من عجائب الدنيا السبع للعالم القديم، وقد أسرت المؤرخين وعلماء الآثار والناس لعدة قرون طوال. لا تمثل هذه الجنائن الاسطورية التي يلفّها الغموض والتكهنات منجزا معماريا وبستانيا فقط، بل تذهب إلى قدرة الإنسان على صنع هذا الجمال المبهر. ومع ذلك يبقى التساؤل، هل كانت الجنائن موجودة فعلا؟.فلطالما كانت الجنائن المعلقة ساحرة ومثيرة. وبحسب ما حفظته النصوص القديمة، أُنشئت هذه الحدائق في بابل بالقرب من مدينة الحلة اليوم. وأثارت خيال الكثيرين على مدى الآف السنين من خلال فكرة كونها معلقة تتحدى الجاذبية والخصوبة والخضرة. ورغم شهرتها، لا يزال الدليل على وجودها وموقعها بعيد المنال، ما يدفع البعض للتساؤل عن وصفها بأنها لم تكن أكثر من مجرد قصة من نسج الخيال. في محاولة لرسم صورة متماسكة لما قد تبدو عليه الحدائق، جمع المؤرخون وعلماء الآثار روايات من اعمال كتاب قدماء مثل «سترابو» و»فيلو» البيزنطيين. تُصور هذه الاوصاف صورة نظام الري المُتقن لمجمع الزقورة الذي كان من الممكن أن يكون اعجوبة تقنية في عصره، ما يسمح للأشجار والنباتات بالنمو في مناخ بلاد ما بين النهرين الجاف. وغالبا ما تُنسب إلى الملك نبوخذ نصر الثاني، الذي شيّدها خلال القرن السادس قبل الميلاد هدية لزوجته «اميديا» لأنها كانت كثيرة الحنين لوطنها وتشتاق لتلاله ووديانه الخضراء.


أهميتها البابلية

وصفت المصادر التاريخية ما تُظهره الجنائن المعلقة كمزيج من البراعة المعمارية والمهارة الحدائقية، ويقال إنها صُممت بتقنية ثورية حينها، إذ بُنيت على سلسلة من منصات مدرجة مدعومة بأقواس وأقبية. وساعد هذا الهيكل على توفير مناخ مصغر يجعله محافظا على مجموعة متنوعة من النباتات والاشجار والزهور التي كانت دخيلة على مناخ بابل الجاف.ولأن الماء شريان حياة اي حديقة خصوصا وسط هكذا مناخ جاف، يُقال إنه تم مد المياه من نهر الفرات عبر منظومة ضخ متسلسلة. وأكد هذا النموذج المبكر للري، الذي يتطلب أيدي عاملة وموارد كبيرة، بأنه يرمز لقوة الملك وبراعة الامبراطورية تقنيا. وبالنسبة للمراقبين القدماء، فان القدرة على الحفاظ على خصوبة وديمومة مثل هذه الواحة وسط صحراء هي معجزة على أقل تقدير.حملت الجنائن المعلقة معنى رمزيا عميقا في الثقافة البابلية إضافة إلى انجازاتها المعمارية والحدائقية. فقد كانت دليلا على قوة وثراء الامبراطورية البابلية وجسدت تقدمها الثقافي والتقني آنذاك. كما كانت بالنسبة لسكان المدينة وزائريها دليلا حيا على قدرة الامبراطورية على السيطرة واستغلال الطبيعة واخضاعها لإرادة حاكمها.من المعتقد أن الحدائق التي قدمها الملك «نبوخذ نصر الثاني» هدية إلى زوجته «ميديا»، لم تكن ترمز فقط للحب وإنما إلى الاندماج والسلام بين ثقافتين أيضا. فمع كونها اعجوبة هندسية ومصدرا للمتعة الجمالية، فهي دليل واضح على مدى قوة الوحدة التي يمكن للمرء أن يصل إليها لسد الفجوات الثقافية.


بين الحقيقة والاسطورة

رغم شهرة جنائن بابل المعلقة لكن وجودها الفعلي كان موضوعا للنقاش بين المؤرخين وعلماء الآثار. ويكمن التحدي في الاساس بعدم وجود أدلة اثرية ملموسة على وجودها. إذ يفترض بعض العلماء أن وجودها اسطوري بحت، وان الكتاب تخيّلوا فيما بعد انشائها لتكون رمزا للزينة ولعظمة بابل العاصمة. 

يقترح اخرون نظريات بديلة، منها احتمالية أن يكون موقع الحدائق في مدينة أخرى؛ مثل نينوى، واختلط الامر على الكُتّاب ونسبوها بالخطأ إلى بابل. وهناك نظرية اخرى تفترض وجودها بالفعل في بابل، لكن آثارها إما تدمرت مع مرور الوقت، أو لم تُكتشف حتى الآن.لقد اثرت اسطورة الجنائن المعلقة كثيرا على الثقافة والخيال الحديث، وألهمت عددا لا يحصى من الاعمال الفنية والادبية والسينمائية، وكانت رمزا للجمال الاسطوري والرغبة الانسانية في انشاء جنة على الارض. لا تمثل الحدائق احدى عجائب العالم القديم المفقودة فقط، بل الجاذبية الخالدة لانشاء مساحات واسعة خارجة عن المألوف وتمزج بين البراعة البشرية وجمال الطبيعة.حاليا، قد يكون مفهوم الحدائق العمودية والهندسة المعمارية الخضراء هو تكرار حديث لإرث الجنائن المعلقة. وتعكس هذه الممارسات المستدامة الهادفة لنقل المساحات الخضراء إلى المدن، الرغبة القديمة في دمج الطبيعة بالبيئات البشرية ما يدل على أن الانبهار بالجنائن المعلقة لا يزال مؤثرا وملهما.لا تزال جنائن بابل المعلقة والسعي للعثور عليها يشد قلوب علماء الآثار والمؤرخين. وكشفت الحفريات في منطقة بابل القديمة عن أدلة على وجود أنظمة ري متقدمة وحدائق بمساحات واسعة، ما يؤكد نظرية أن تلك الحدائق كانت موجودة بالفعل. وكما هو موضح عبر النصوص القديمة فإن الدليل القاطع الذي يربط هذه النتائج بالجنائن الاسطورية ما زال بعيد المنال.

عن موقع فينتج نيوز