الحمّام العراقي و «طاسة» الكهرباء

آراء 2024/06/26
...


 سالم مشكور

كل حكومة تأتي، يكون الكهرباء في صدارة برنامجها، ويطلق رئيسها ووزير كهربائه وعودا كبيرة بحل مشكلتها المستعصية، ومع أول صيف يمرّ من عمر كل حكومة يتبين أنه «نفس الطاس ونفس الحمام». لا يشك أحد في نوايا هؤلاء بالإصلاح، فما من عاقل يفرط بحل أزمة تكسبه شعبية كبيرة. تخيلوا أين وصلنا بحيث باتت الكهرباء المستمرة في قمة أحلامنا. المشكلة أن النوايا الطيبة وإرادة الإنجاز تصطدم بواقع مأساوي لا تنفع معه مداهمات وزير لمراكز التوزيع ولا إعفاءات رئيس الوزراء لمسؤولين في الكهرباء. واقع تتداخل فيه عوامل عديدة ومصالح متشابكة ومتضامنة لإفشال أي كل جهود باتجاه حل ولو جزئي للازمة. الحلول باتت كمفعول الأسبرين في مواجهة مرض عضال. ربما يسهم في تسكين الألم بنسب معينة، لكنه لا يعالج المشكلة أبدا.
أسباب الفشل تتنوع بين سوء تشخيص للحل وسوء إدارة للملف وتدخل أيدٍ مستفيدة من استمرار الأزمة، وتضارب المشاريع المقدمة من خبراء للحل. فما يجزم الأول انه طريق الحل الحقيقي للازمة جذريا، يسخر منه الثاني الذي يقدم تشخيصا وحلولاً يراها الثالث مجرد أحلام و»خوط بصف الاستكان» وهكذا؟.
في الأسباب يذكر كل من المتخصصين سببا للمشكلة، لكن الواضح أن كل الأسباب المطروحة تتضافر مجتمعة: أسباب فنية، وأخرى تتعلق بسوء إدارة الملف، وتدخل عوامل داخلية وخارجية، وتفشي الفساد والمصالح الذاتية ولو على حساب الناس وراحتهم واستقرارهم، وجهل المجتمع في طريقة التعامل مع الكهرباء واستهلاكه، وغياب الجباية الحقيقة، وانخفاض الأسعار الذي يمنع الترشيد في الاستهلاك. كل هذه العوامل تتضافر لتتفاقم معاناة الناس وتتباطأ التنمية، ولا تنهض الصناعة ولا الزراعة ولا التعليم ولا الطب وووو؟.
هناك من يتحدث عن تدخل أيدٍ خارجية لمنع بناء واستقرار الكهرباء في العراق. أحد السياسيين قال في برنامج تلفزيوني أن هناك شركة أميركية تستحوذ على كل عقود وزارة الكهرباء، ولا تسمح لغيرها وفي الوقت نفسه، لا تنجز مشاريعها لأنها مكلفة بمنع حل هذه المشكلة. يقول هذا السياسي إن كل المسؤولين يعرفون بالأمر، لكنهم غير قادرين على تغيير شيء. أمر عجيب حقاً.
 قبل سنوات تناقل كثيرون تغريدة لسفير ألمانيا يقول فيها إن واشنطن منعت شركة زيمنس من العمل، بعدما تعهدت بحل مشكلة الكهرباء خلال سنتين. المرحوم الجلبي كان قد قال في حوار تلفزيوني أن في مشكلة الكهرباء لغزا كبيرا. آخرون يتهمون دولاً مجاورة بمنع حل المشكلة عبر أدوات لها في العراف، كي يبقى العراق مستوراً كل شيء من هذه الدول.
في المقابل، ينبري كثيرون إلى نكران وجود أي عامل خارجي يعرقل بناء الكهرباء. يقولون إن من يطلق هذه التصريحات يعيش نظرية المؤامرة أو أنه يريد تعليق فشله على شماعة العامل الخارجي. يتحدث هؤلاء عن غياب التخطيط والإدارة الصحيحة، والمحاصصة التي جعلت من وزارة الكهرباء – كما غيرها من الوزارات - بقرة حلوب ترضع الأحزاب والكتل السياسية.
لو سلمنا بصحة كل الأسباب الداخلية سالفة الذكر- وهي صحيحة- فان موضوع العامل الخارجي يحتاج منا الإجابة على عدد من الأسئلة:
هل يجادل أحد في أن الكهرباء عصب الحياة وأساس تطورها؟ أليس غياب الكهرباء يدخل المواطن في حالة هستيريا في ظل درجة حرارة تبلغ نص درجة الغليان، وما يتركه ذلك من أثر على وضع الأسر واستقرارها؟.
أليس بقاء مشكلة الكهرباء يؤجج الشارع ويعمق من أزمة الثقة بين المواطن وكل حكومة تعده بحلها ثم تعجز؟ أليس غياب الكهرباء عاملا مهما في خفض سقف طموحات الناس بحيث لا يحلمون بأي تطور ومواكبة للعالم، بل أن أقصى حلمهم كهرباء تقيهم لهيب الصيف وفواتير المولدات الخاصة، التي ترهق ميزانيات الأسر دون أن تعوضهم عن الكهرباء الحقيقة.
باختصار: أليس استمرار مشكلة الكهرباء يبقي البلد مضطربا متخلفا ضعيفا؟
طيب، الآن يأتي السؤال: أليس هناك طرف أو أطراف تريد بقاء العراق مضطربا غير مستقر، كل لمصلحته الخاصة؟ لا أعتقد أن أحداً ينكر وجود هكذا رغبات، فاذا كانت موجودة: أليس من مصلحة هذه الأطراف الخارجية منع حل جذري لمشكلة الكهرباء في العراق من دام يحقق لها أهدافها؟.
أسباب عديدة ومتنوعة داخلية وخارجية تبدو متضامنة لمنع حل المشكلة، ومن يدفع الثمن هو العراق وإنسانه المبتلى دوماً.