{المثقف} حين يمتهن التجارة

آراء 2024/06/27
...

 ثامر عباس 


كان بودي أن أصوغ عنوان المقالة بالشكل التالي: (حين يستحيل المثقف إلى تاجر)، ولكني آثرت، في اللحظة الأخيرة، العدول عن فعل ذلك، إذ ارتأيت أن الإبقاء على العنوان بصيغته الحالية هو الأكثر تعبيراً عن مقاصد هذه المقالة. 

على اعتبار أن ضمّ الثقافة إلى التجارة، وبالتالي اجتماع شخصية المثقف مع شخصية التاجر، يعد من قبيل إضافة النقيض إلى نقيضه، ومشابهة المختلف مع ما 

يخالفه.  فإذا ما سلمنا بأن من حق (كل إنسان) أن يمارس الأعمال والأنشطة التجارية المشروعة، وفقاً لقدراته الذاتية ومهاراته الشخصية وإمكاناته الاقتصادية واجتهاداته التسويقية، فهل يا ترى – بالمقابل–  يحق (للمثقف) كإنسان أن يزاول هذه الفعاليات الاجتما - اقتصادية، حاله في ذلك كحال أي إنسان آخر دون ممانعات ذاتية أو احراجات اجتماعية، أم أن هناك (اعتبارات) أدبية و(روادع) قيمية ينبغي عليه مراعاتها والتقيد بها، حين تضطره الظروف للانخراط في مثل هذه الأنشطة والممارسات ذات الطبيعة الاقتصادية والإنسانية؟.  فمن البديهي القول أن كل إنسان بحاجة إلى تأمين قوت حياته الشخصية والعائلية، كما فعل أسلافه منذ آلاف السنين، ليس فقط على صعيد الضروريات المادية والمعيشية والغريزية فحسب، وإنما على مستوى الضروريات الفكرية والنفسية والرمزية كذلك. وبما أن المثقف هو إنسان أولاً وقبل كل شيء كما أشرنا، فإنه لا تثريب عليه حين يزاول عملاً- مهنة ما سواء في مجال التوظيف الرسمي (الحكومي) كأستاذ جامعي على سبيل المثال، أو في مجال العمل التجاري (الأهلي) كصاحب مشروع خاص أو كمساهم في شركة. من دون الأخذ بنظر الاعتبار الخصائص الإضافية من مثل، وزنه الاجتماعي، ودوره الاقتصادي، ومستواه الثقافي، وتحصيله العلمي، طالما كان محافظاً على ثوابت الثقافة في بنية وعيه، ومراعياً معايير الأخلاق في أنماط سلوكه.  وبضوء التغييرات الجذرية الحاصلة في بنى المجتمعات العربية عامة والمجتمع العراقي خاصة، على مدى العقود القليلة الماضية، فضلاً عن التحولات الحادة والتداعيات العاصفة في مدماك منظوماتها القيمية والرمزية والحضارية، فإن دفاعات وممانعات البعض من (المثقفين) الطارئين سرعان ما تخضع لعوامل التآكل في أساساتها، والتصدع في معمارها، والتفكك في روابطها كما المومياء وهي تواجه عوامل الطبيعة. بحيث تهاوت الحواجز القائمة في وعيهم، واندرست الحدود المنقوشة في ضمائرهم، واضمحلت الفواصل المرسّمة في سيكولوجاتهم. وهكذا، فقد تخالطت في تفكيرهم وتداخلت في تصوراتهم العديد من التناقضات والتقاطعات، ما بين قيم (الثقافة) ورميم (الخرافة) من ناحية، ودماثة (الأخلاق) وخباثة (النفاق) من ناحية ثانية، وفضيلة (القناعة) ورذيلة (الرقاعة) من ناحية ثالثة.   

والحال، فقد ثبت لي – واقعياً و شخصياً- من خلال تعاملي المباشر مع بعض أصحاب دور النشر الخاصة من ذوي الخلفيات الأكاديمية (أساتذة جامعيين) أو الفكرية (كتاب وباحثين)، ممن استحبوا الانخراط في مجال طباعة الكتب ونشرها وتوزيعها، أنهم تحولوا – بوازع من مآرب ومكاسب مالية - إلى (تجار) أقحاح لا يختلفون بشيء عن أقرانهم، سوى كونهم باتوا بارعين في ارتداء الأقنعة المزينة بعناوين ثقافية مغرية ويافطات ترويجية 

جذابة.  لا بل أن نظرتهم إلى المنتوج الثقافي والفكري باتت لا تقل – من حيث اعتصارهم فائض القيمة - عن نظرة نظرائهم تجار السوق، إن لم تكن أشد إمعاناً، في مجالات الكسب المادي. ولعل حجتهم الجاهزة على ذلك ما طرأ على سوق (الكتاب) من غلاء في مواد الطباعة، فضلاً عما أصاب القراء من عزوف عن الكتب (الورقية) المكلفة والتحول عنها إلى الكتب (الالكترونية) المجانية، الأمر الذي أفضى إلى ركود السلعة الثقافية (الكتاب) وتراجع زخم الطلب عليها كما كان الحال في السابق. 

ولكن، بالرغم  من قوة الحجة التي يسوقونها ووجاهة الأسباب والدوافع التي يقدمونها هؤلاء الذين يحرصون على الجمع بين فضائل (الثقافة) ورذائل (التجارة)، لتبرير مثل هذا السلوك (التجاري) الشائن في التعامل مع الكاتب والكتاب، فإن هناك (حدوداً) معيارية – أدبية وأخلاقية وإنسانية - لا ينبغي ولا يجوز على من يحسب نفسه من أرباب (الثقافة) تجاهلها أو تجاوزها مهما كانت الأسباب والدوافع، وإلاّ فإنه يفقد صفته كـ(مثقف) ويستحيل إلى (تاجر) سوق تحركه بواعث الربح والخسارة ليس إلاّ، وإذاك تسقط دعاوى الثقافة عن شخصيته وتزاح هالة الاعتبار التي تجلل  كيانه.