حميد الشمران
لوحة "المرأة الفلاحة" لفان كوخ ليست كبقيَّة رسومات الفنان الحداثوي، ثمة اشكالية تكمن وراء طبيعة الصورة الظاهرة، كأنها ولدت في وجهين حقيقيين، المبطّن الطفولي يثور على العجوز المعلن الذي نما في مكانه.
ماذا نجد في نظرة عينيها غير ظلٍ لطنجرة فارغة، وآثار لأرجل طيور صغيرة تطوف حول محاصيل المرأة الفلاحة.
ربما يرى العالم في عينيها فقر أنيق وفي محياها ابتسامة عابسة فيما تعنيه ريفيّة لا تُريد أن تبوح بشيءٍ من أسرارها، لكن الرسام الانطباعي فان كوخ الذي رحل عام 1890 لديه رؤيته اليائسة والمتقلبة لتترك لنا لوحات بسيطة بمشهدٍ صوري يتطوّل للبحث عن معانيها الحقيقة التي دست في وحل الحقول بعد سيل كثير من كعوب المخلوقات.
فهو يحاول أن يجد لشخوصه رقعة مسطحة آمنة بعيداً عن مآسي عالم تُحيطهم. نسج فان كوخ من الألوان الزيتية تجاعيد المرأة في أكثر من موقف ليقول: "هكذا كانت المرأة الفلاحة في معايير مجتمع الرسامين آنذاك".
المرأة تمثل خلاصة الجمالية حسب تأملات الفن الحديث مثلما كانت رمزاً للخصوبة في سالف الأزمان، من كل غصن جاء عود رفيع، ومن كل قرية جاءت طينة، ثم تشكّلت ملامحها في رسوماته تحت أشعة صفراء وفوق قماشة الكانفاس ليسرد الرسام تفاصيل السنين التي عاشتها تلك الوجوه النسائية وهي تُعاني
الفقر. في وجوه شخوصه نجد عينان مريضتان وملامح متهدّلة وحاجبين من دون اهتمام، وحياة لا وصف لها قط غير إنها منحنية خجلاً، كأنهم مهملون منذ دهور في فضائه اللا شعوري. ليقودنا فان كوخ في المدرستين الانطباعية وما بعد الانطباعية عبر حركة الفرشاة المتلعثمة إلى كآبة تتجه دوماً إلى لوحاته، حتى إنه يصاب أحياناً بهستيريا وتأنيب الضمير مما يؤدي به ذلك إلى سلوكيات جنونية، حيث إنه قطع أذنه فقط لأنه أراد أن يرسمها بشكل جيد وفي موقع جيد، ثم أهداها إلى جارته "راشيل" التي جذبت رسامين عصره!
ربما يريد أن يقبض على لحظة بائسة قد مرقت في ذهنه المدمر، ليثبت لها بأن الذي لا تراه راشيل من الأشياء الجميلة يمكن أن يكون من الأشياء الصادقة!
فان كوخ الذي يراقب الطبيعة دوماً يصعب عليه العيش بعيداً عن الحقول والأشجار كونه عاشقاً لتفاصيل الطبيعة التي تحتويه، لذلك نراه يرسم الجزء المتألم من أجزاء عناصر الطبيعة، إذ كان ذلك واضحاً في مسيرته الفنيّة، دائماً ما يمضي إلى ما وراء الظاهر للتصوير والرسم، حيث ذهب ذات مرة ومعه أدواته ثم جلس أمام شجرة السرو ليرسم جذورها الدفينة بدلاً من الأغصان والورق -المضمر بوصفه ظاهراً- إذ أطلق الجذور للعلن بقصدٍ منه! أراد بذلك أن يعمر عالمها الضيق المختنق ولم يشغله عالمها الواسع المتنفس. تلك هي لوحة التمرد على الرسم "جذور الشجرة" وهي تقلب العالم رأساً على عقب.
اهتمّ فان كوخ في كثير من الثنائيات- بالرمز ودالته الموضوعية- ليسهل علينا عملية الفهم، القمح والغربان الجائعة، الحذاءين المتسخين العائدين من الحقول للتو، الفلاح وزوجته النائمين قرب المحصول، المرأة الحزينة والمهد، المرأة المنكسرة والطفل الرضيع، المرأة الحائكة والمخيط. وهناك رمز آخر تكرر في رسوماته، هو الطبيعة النباتية ليستنطق المرئي وغير المرئي منها كما في "أشجار السرو، وزهرة عباد الشمس، والخشخاش" تلك الصور أعتاد أن يعيد تدويرها في لوحاته، وربما شكلت تلك النزعة تجاه النباتات والزهور والأشجار لحظات الفرح القليلة في حياته المصابة باضطراب ثنائي القطب لينال بعضاً من الطمأنينة والسكينة على أنغام بتهوفن والألوان الزاهية. كان فان كوخ محتجاً على الأنظمة الكونية والتي يراها غير متناسقة وما يؤكد ذلك الرأي ما يحدث داخل إطار لوحاته الغاضبة، ولاسيما في مشهد اللوحة الشهيرة "الصرخة" يظهر فيها الغُلام الذي يقف على الجسر ممسكاً بصدغيه وهو يصرخ، أو يغلق أذنيه مذهولاً من صرخات العالم الذي لا ينفك عن محاصرته.
يتحكم فان كوخ في تكوين هيئة المخلوقات التي يرسمها كما يشعر هو، لا كما يشعرون! لم يتمكن من بيع لوحاته عدا واحدة من أصل أكثر من سبعمائة لوحة قد رسمها، لذلك عاش حياة فنيّة مليئة بالخيبات، وكان متأثراً بالرسام الفرنسي "جان فرانسو ميليه" ثم انعكس تعمقه في المزاج السيئ لمعلمه على طبيعة مواضيعه الفنيّة ليشمل لوحاته جميعها بما فيها "القيلولة" رغم إنه تعاطف كثيراً مع هذه اللوحة بالذات, كونها رسالة إنسانية داعمة لحياة الفلاحين الكادحة، بعد أن كان متأثرا بمظاهر الريف والحقول المحيطة في "بروفنسال" ليوثق نهاراً متعباً عبر مشهد الزوجين المتعبين وهما يستلقيان على كوم من القش وإلى جانبهما منجلين إشارة ليوم مليء بالجهد وإلى مشقة الحياة التي تقترن بذلك.
أراد فان غوخ أن يمنحهما راحة أبدية، كونه يبحث جاهداً عنها، ليجعل نومهما في لوحته يمتد إلى يومنا وما بعده.
"ليلة النجوم" هذه أيضاً تعد صورة مماثلة لانجذابه للريف ولأشجار السرو، كانت لحياة العصبية من نافذة غرفته في المصحّة.
يبدو أنه تذكر شيئاً ضارباً مما غيّر انسيابية مزاجه الذي استقر برهة في المصحّة، وقد جعله يستدعي فكرة السفر إلى أو في النجوم والكواكب، حيث نلحظ الاضطراب عبر الحركة والضربات والدوران للفرشاة التي ينقصها قليل من الاسترخاء لتكون هادئة في جوها العام وعلى غير الزوبعة الكونية التي ظهرت بها ليلة النجوم الغامضة.
بيد إن فان كوخ يوظف كآبته ومزاجه النفسي لتظهر على رسوماته حواراً متوتراً بينه وبين ما يرسمه، وبان خطابه الأدبي الثري في أكثر من مناسبة لأخيه "ثيو" الذي لم يذكره سوى مرة واحدة! كما أنه يعبر عن وجوده المبهم باللون الأصفر الذي تولّع به كونه لون الشمس الذي يمثل قمة التوهج والإشراق في مداخل نفسه.
وهذا ما يعانيه فان كوخ بالضبط، لذلك حاول أن يستقطب ذلك النشاط إلى يومه المعيش، لكنه فشل مراراً ولم يكتف ضميره المعذّب بمنديلٍ مدمى حول أذنه! بعد أن تأثر بحادثة انتحار شقيقه "فنسنت" ليقدم على الانتحار بمسدس صغير صوبه نحو معدته بيدٍ ترتجف في عمر لم يتعد السابعة والثلاثين، "أريد أن أسافر في النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني!
متى سنمضي، نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا المدماة.
ولكن إلى أين؟
إلى الحلم طبعاً.