شبح الأيديولوجيا وذعر الديالكتيك

ثقافة 2024/07/04
...

  حازم رعد

 رغم أهمية الأيديولوجيا  في مجالات عديدة، إلا أنها بالإجمال تطبيقات عملية لرؤى وتصورات نظرية.. فهي بمعنى من المعاني نشاط يمارس، وأيضا مهمة على مستوى دربة ووعي مجتمع، تهدف إلى جعله أكثر انسجاماً وتجانساً.
والأيديولوجيا   هي ما يحقق ذلك الادماج والتجانس، وكذلك تكمن أهميتها في بعدها النظري، فهي اطار معرفي ومنهجي غني بالمفاهيم والأفكار والأدوات الفاعلة، إلا أنها تعبير عن واقع مقلوب ليس بالحقيقي، بل ما يصور لنا عبر تبريرات تسوقها الأيديولوجيا   لجعل الواقع بعين المتلقين أكثر مقبولية وانسجاماً وقربا لواقع ترسمه فرشاة الايديولوجيين، فتكون طبقاً لهذا التفكير وليست الحقيقة، بل نسخة عنها.
والنسخ وإن كانت تحاكي الأصل، إلا أنها زائفة وليست بقوة الأصل "الحقيقة"، فالأيديولوجيا   عبارة أكثر وضوحاً عن مجموعة من الرغبات لمجموعة من الاشخاص "من ذوي السلطة" اجتهدوا بشتى سبل التحايل والالتفاف وسوقوها على أنها حقيقة مطابقة للواقع بشكل مطلق.
إن نقيض الأيديولوجيا   في كل السرديات التي مرت على البشرية هي الحسرة والعبودية والاستغلال والجحيم والهلاك.. هذه المفاهيم التي تعد الناس بمختلف ألوان العذابات استخدم في تعميمها خطابات عديدة منها "الديني والسياسي والأخلاقي والإلحادي والمادي"، وبرع القائمون عليها بتسويقها.
وبالمقابل جعلت الإنسان في حالة من ذعر افضى للتفكير، ولكنه تفكير "مغلوط".. بطريقة لا تقوم على السؤال والتشكيك والطرح الاشكالي أسهم في ترسيخها الخرف والخشية، التي استقرت في اعماق متلقي تلك الطروحات والمفاهيم في كونها حقيقة.
نحن إذن أمام "الشبح" الذي أطلقه المفكر ماكس شتيرنر على مفاهيم، فسرت بشكل مغلوط أو أريد تعميمها بخطابات شعبوية تقلب الواقع رأساً على عقب، لتثير هاجس الخوف من المجهول، والخشية مما هو قادم.
وبالتالي لا يبقى خيار أمام بسطاء الفهم والتفكير إلا الانخراط في هذه الأيديولوجيا   أو تلك، والتحرك ضمن مسعاها العام نحو تحقيق رغبات "المهووسون بالسلطة"، فتصير الأيديولوجيا   على هذا الحال "شبح" يحيط بمخيلة الأفراد ويثير الذعر فيهم.
وهنا لا يحتاج الأمر لمزيد من عناء التوجيه، فالمجموعات البشرية ستتحرك بإرادتها طواعية "كقطيع لا يختلف ولا يتخلف" ودون اجبار أو قهر.
وقد استخدم في تعميم الأيديولوجيات على مر التاريخ شتى الأساليب كالأساطير والخرافات، وأحيانا يحتاج الأمر الى تدخل "السلطة" الدينية منها والاجتماعية والزمنية لتثبيت رؤى واستراتيجيات صناع المحتوى الأيديولوجي.
والأيديولوجيا   التي تعتمد على مقاربات واقتباسات من النص الديني هي الأكثر رواجاً، لأنها الأشد تأثيراً في النفوس وسيطرة على الذهنية العامة التي عادةً ما تتسم "بالبساطة في التفكير وسهولة التلقي".
ونلاحظ أن النازية والليبرالية الامريكية والقومية العربية والدول التي تمازج بين العلمنة والدين "كالصهيونية" لتبرير استراتيجياتها وأفكارها وأهدافها، لأن القائمين عليها يدركون ما للدين من قوة تأثير في النفوس، وتجيء بعد ذلك ايديولوجيات تبشر بمستقبل سعيد للبشرية وتفسر العالم على ضوء النشاط المادي وقوانين الديالكتيك والتي وظف العلم فيها كأداة للتبرير وتعميم الفكرة.
إن أبرز سمات المنخرطين داخل الأيديولوجيا   عدم تقبلهم النقد من خارج أيديولوجيتهم ويعدون ذلك اعتداء سافر ينبغي أن يواجه بالأسلوب الذي يحد منه أو ينذر بردود أفعال وخيمة، واسوأ ما في هذه الممارسة هي لجم التفكير وكبح حرية الآخرين في التعبير عن رؤاهم الناقدة، وبقاء الأخطاء على حالها والتمادي في حال توقف النقد فأن معنى ذلك توقف عملية الاصلاح ومحاولات التغيير الايجابي أو حتى الاشارة إلى الأخطاء، بل إن الاشخاص المؤدلجين "منظرين قادة ونشطاء وذوات" يعدون النقد الداخلي مؤامرة يراد من ورائها نخر السور والداخل الأيديولوجي "العقيدة، المذهب، الحزب، الاتجاه الفكري "وهنا قد تكون الخيارات مفتوحة أمام طبقة حراس الأيديولوجيا  بالرد المناسب ازاء بعض توجهات النقد من داخل الاطار الأيديولوجي، فضلا عن مساوئ التنظيمات الايديولوجية كعدم الاعتراف بالآخر وإقصائه، لأنه يشكل خطراً على غايات الحرس السلطوي وأهدافهم في النفوذ
والمكاسب.
ولذا عندما نحلل الأيديولوجيا   "نفصل بين الأفكار التي تنادي بها وأدوات تطبيقها على الواقع، وكذلك بين انساق تتحرك عبرها لنكتشف تناقضات ومفارقات قلما يلتفت إليها، لاشتباه الأمر على المتلقي".
إن وضع أفكار ومقاربات الأيديولوجيا  على طاولة النقد والتحليل الفلسفي يعرضها للحرج، لأن الفلسفة عبر أدواتها وطريقتها في التفكير والبحث والاستنتاج بإمكانها تعرية وكشف زيف النص الايديولوجي وإجراء عزل بين فكرة صواب وأهواء ورغبات الفاعلين من الزعامات السلطوية، وبالتالي فك الالتباس الحاصل في اذهان العديد من الذين مورست عليهم عمليات الخداع والتضليل والإعماء عن رؤية الحقيقة.
إننا لسنا بمعرض إطلاق أحكام قيمة على الاشخاص والاتجاهات الفكرية، لأن الناس احرار فيما يختارون من شكل ممارسة واتجاه فكري يجدونه مناسباً لهم.
غاية الأمر الفصل ما بين التفكير الفلسفي "المنفتح على الآخر والمرن"، وما بين التفكير الأيديولوجي "المنغلق والصلب".
وأن نقد التفكير الايديولوجي يأتي من الممارسات والأساليب التي تتبعها للوصول إلى هدف سياسي أو سلطوي أو هيمنة.