{ميحانة} ومسارات جذورها الشعبي

ثقافة شعبية 2024/07/04
...

   وجدان عبدالعزيز

الحقيقة التاريخية أثبتت أن مسحة الحزن في مجمل الإنتاج الإبداعي العراقي، بقيت ملاصقة له، حتى في نسخه الحديثة، والعلة في ذلك كما أشار لها الباحثون أن الموروث اصطبغ بهكذا حزن نتيجة كوارث البيئة وجغرافية المكان والعواصف وتقلبات الجو وغيرها مما يتركه من خراب وتدمير للديار والمزارع جراء الفيضانات، أو شحة المياه في موسم من المواسم، أو أسراب الجراد في مواسم أخرى، لكن العلة الأخرى الأكثر أثراً في ظهور الحزن ذات شقين: الأول هو أن أرض العراق امتازت بالخصوبة وقبولها لكل المنتجات النباتية، والثاني موقع العراق في مفترق الطرق بين الغرب والشرق، جعله دائما مسرحا للحروب الطويلة، التي ذاق ويلاتها وفقداناتها سكان هذه الأرض، لا سيما واقعة الطف وقيام العاشوريات السنوية ومارافقها من حزن تليد، ولم يغفل التاريخ الاضطهاد والجرائم، التي قام بها الحجاج الثقفي وغيره، وقد كان الحزن العراقي قديما قدم هذه الحضارة النامية، حينما كان الغناء والرقص يرتبط بالطقوس الدينية
والمعبد.
وكان من طقوس العبادة عند السومريين النواح والبكاء على ديموزي ( تموز) وهو الذي ارتبط اسمه بالخصوبة والنبات، ومن هنا تكوّن لنا تراث غنائي حزين وإيقاع يشبه إيقاعات اللطميات والمراثي الجماعية في وسط وجنوب العراق.. اذن اصطبغ لون الحزن بمجمل الإنتاج الإبداعي ومنه الشعر، حتى يومنا هذا، وخاصة القصيدة الشعبية المغناة، وباستمرار الحياة وتعاقب الحروب والنكبات، كانت الأغاني ذات الشجن تتجدد، لترسم صورة الواقع، الذي يعيشه العراقي، وكيف يحاول أن يصمد ويصارع الهم ويتأسى بشجن القيثارة السومرية من أجل صنع الحياة التي يريد، ولهذا جاءت كلمات (ياويلي)، (يابه)، (ويلاه.. ويلاه) و(آحاه منك يا زماني)، حيث لها علاقة بالحضارة السومرية، يقول الكاتب الخليجي  محمد عبدالله محمد: (ان تفسير جنوح العراقيين المفرط اليوم في البكاء والحزن، وهو لأنهم يرثون في لاوعيهم ما كان يفعله السومريون والبابليون والآشوريون وهم أصحاب ذات الأرض، حتى وإن تباعدت أصولهم وجذورهم وسلالاتهم القبلية والأسرية) وهو أمر يسري على كل المكوِّنات العراقية الأساسية كالسُّنة والشيعة والأكراد وحتى المسيحيين..)، وفي سؤال للمطرب العراقي رضا العبدالله عن مسحة الحزن اجاب: (نعم هذا
صحيح.
للعراق تاريخ عريق جداً.
وبحكم أن العراق مرّ بنكبات كثيرة ولم يشعر يوماً بالراح، فنشعر دائماً أن الحزن يغلب في جميع المواضيع التي نغنيها حتى الفرحة منها، وكأن
الحزن بات جزءاً من الحضارة أو التراث العراقيين، وكأننا رضعنا الحزن منذ الطفولة..)، ونعطي مثالاً لفلكلوره الجميل قصة (ميحانه ميحانه) حيث كانت كلمات الاغنية مستوحاة من قصة حب حقيقية، وهي ان فتاة ريفية احبت شابًا بالقرية لتظل وفية له بعد موته المفاجئ، لتحفظ الأجيال المتعاقبة قصة الحب الخالد وغناها الكثير من مطربي العراق واشهرهم ناظم الغزالي وكاظم الساهر باعتبارها فولكلورًا عراقيًا خالصًا، والحقيقة كانت القصة تدور احداثها في مدينة المسيب، حيث كانت تنتظره الفتاة المحبة على شاطئ النهر قبل أن تغسل الأواني وتنقل المياه الى منزلها.
وقد علمت بقصة الحب هذه صديقة الفتاة واسمها «ميحانه»، وبعدها يموت الشاب في حادثة مفاجئة كما اسلفنا، فحزنت حبيبته حزنًا شديدًا، ثم يأتي اليوم الذي تنتظر الفتاة مركب حبيبها، فيمر القارب دون غناء صاحبه، ومن دون صوته الجميل الذي يأسر القلوب، فأحزنها المشهد الصامت، لتطفو ذكرياتها وتلتفت الى صديقتها ميحانه، وقد اقتربت الشمس من المغيب، حيث انشدت
قائلة:
 ميحانه ميحانه... ميحانه ميحانه
غابت الشمس وللحين ما جانه
حيك.. حيك بابه حيك.. ألف رحمة على بيك
هذوله العذبوني.. هذوله المرمروني
وعلى جسر المسيب سيبوني
ليظل الحزن يرافق الشعر والغناء العراقي اينما حل....