محمد هاشم: النجوميَّة لا تتطلب إبداعاً

منصة 2024/07/09
...

 حوار: محمد إسماعيل

 تصوير: كرم الأعسم


شوق متبادل بين رئيس التحرير الشاعر أحمد عبد الحسين، والفنان محمد هاشم، لبّيته بإلحاحي على أبي هاشم بإجراء لقاء موسع لـ {الصباح} يزور عبد الحسين خلاله، فكان لي ما أريد من الفنان محمد متفضلا، بجلسة حوار شخصي جميل، بينهما، ساده ارتياح ثقافي راسخ ورصين، تحولنا بعده من مكتب رئيس التحرير إلى مكتبي في قاعة الملاحق، أصغي للفنان هاشم، والمسجل يدوّن: من الأهمية بمكان أن يشكل الممثل موقفاً من الدور الذي يؤديه، لي وجهة نظر واضحة ورؤية شخصية وعملية بالاتفاق مع المخرج والمؤلف، لأن المخرج هو القائد وهو الذي يتحمل النتائج، سواء أكانت حسنة أم سيئة، وأعطى مثلا في مسلسل {بنات صالح}، ثبت موقفاً ورأياً اقتنع بهما المخرج وطلبت إضافة مشاهد تدعم الشخصية، فلبى المخرج ذلك ونجح المسلسل عموماً وأنا خصوصاً ضمن حيزي منه، قائلا: أعشق التمثيل، وبالتالي أعشق الشخصية التي أؤديها، أجعل منها صديقة عندما أمثلها، أداءً وتفكيراً.

*ماهي العناصر الجاذبة في “بنات صالح” وما أهميتها بالنسبة إلى نبض الشارع العراقي؟


- العناصر التي ما زالت تبكي الناس في مسلسل “بنات صالح” حيثما التقوني، وأنا استثمرت عواطف الناس بخبرتي الممتدة لأكثر من عشرين سنة، عندي إحساس بنبض الشارع، وهذا ساعدتني فيه البرامج الإنسانية التي قدمتها، وتواجدي في الشارع، عندي إحساس بالعناصر الجاذبة لنبض الشارع، الحدوثة بسيطة: أب خرج من السجن، لكن أنا استثمرت شيطان الظلم المتقافز في نفوس بعض البشر، الذي تفرعن بعد 2003 معظمنا يشعر بالمظلومية وهماً أو حقيقة، اشتغلت على هذا الجانب، عازفاً على وتر البكاء المغرم به العراقيون، بسبب ومن دون سبب. 

بل لاحظت أغلبنا يفتعل أسباباً كي يبكي، مضيفاً: شباب يستوقفونني قائلين: أنا صالح، مع أن أعمارهم لا تنطبق على الشخصية، لكن كل الأجيال في العراق سحقتها المعتقلات والحروب والحصار- العقوبات الدولية والإرهاب والفساد، شيوخ ونساء وسواهم، بعضهم يحضنني باكياً: ذكرتني بأخي الشهيد، وابني المعدوم، صار صالح ملاذاً يستفرغ أحزانهم كل يسقط همه على شخصية صالح المطلقة.  يبث الظلم الذي ناله والخسائر الاجتماعية التي مني بها.

بتواضع شديد ساعد في ذلك صدقي في أداء “صالح” لأجعله أيقونة أسى، تماهياً معها، بمشاعري وانفعالاتي وتقمصي لها، هذا الصدق وصل إلى الناس وأثر بهم.

النجاح نفسه الذي تحقق في بغداد، شمل المحافظات ودول الخليج والشام والسعودية والكويت والإمارات والأردن، والتأثر ذاته؛ لأن الموضوع إنساني يتكرر في كل مكان وزمان.


*أي أعمالك الفنية أقرب إلى نفسك وترى في الوقت نفسه أنها حققت نجوميتك؟


منذ بدء دخولي معهد الفنون الجميلة، اشتغلنا مسرحية «ماراصاد» إخراج ظافر جلود، تأليف بيتر فايس، كنت ضمن المجاميع، أردد فيها «حيوان مجنون هو الإنسان، في حياتي الطويلة اشتركت في قتل الملايين من البشر» وكانت النجمة آسيا كمال، طالبة في المرحلة الخامسة وأنا في الأولى، قالت: هذا الولد سيكون ممثلاً، ونقلوا لي رأي الفنان قاسم محمد، الذي قال بعد العرض: سيحقق هذا الولد مكاناً متميزاً في الفن العراقي.

أنا مجنون تمثيل، صدقي وانتمائي للفن هما جواز مروري إلى ترسيخ شخصيات شعلان كزارة وعدنان أبو الكلية وعدنان أبو الكبسلة وبنات صالح وناظم كزار ونجم طبانة، كل شخصية أنه أوفق بها، وكأنني مخلوق فقط لها، حتى هذه اللحظة أعد نفسي هاوياً، لا أحب مفردة نجم، أفرح عندما يقال لي أنت ممثل جيد، وأحب المدح، لكن النجومية لها أداءات غير إبداعية.

ليس بالضرورة أن كل نجم مبدع، أسعى أن أكون ممثلاً جيداً ومؤثراً، حريصاً على الانتماء لمهنتي، ليس بالضرورة نجماً.

البرامج الإنسانية التي قدمتها أكدت فيها حبي للناس وتواجدي المستمر في الشارع، أراقب، أرى، أحضر في الأحداث الوطنية والسياسية والاجتماعية، كل تلك خلقت عندي خصوبة في التلقي وما أتعبأ به حياتياً أحيله إلى الفن، كل أعمالي أحبها.. أشتغل كل سنة أو سنتين عملاً، لذلك أختار بعناية دقيقة، إذا لم يلامس شغاف مشاعري وأشعر بقربه مني لا أمثله نهائياً؛ لذا أعتز باعمالي كلها.


*هل تنتظر دوراً محدداً قد يمثل هاجساً فنياً في مسيرتك كفنان؟

- ليس عندي محددات تؤطرها شخصية معينة، لكن دائماً يشغلني هاجس تقديم ما يفاجئ الناس بكوني ممثلاً، شيء قليل من معاناة الناس فكرياً وحياتياً، أتمنى تقديم أعمال درامية أو برامجية تخفف معاناة المهمشين. تلك شخصيات غنية درامياً، وهناك نماذج حياتية لم يسلط ضوء عليها، ليست هي الوجه الرئيس في الفعل الدرامي، منها عمال النظام وملمعو الأحذية، مهن محترمة لأنها شريفة، لكن مهملة.

بل حتى الشخصيات السلبية، آخذها من الجانب الإيجابي، متابعاً: أقدم الشخصيات السلبية من وجهة نظرها نفسها وليس من قبيل نظرة المجتمع أو القانون، لأن المجرم يرى نفسه على حق، أبحث في هذه التفاصيل، وهذا ما حصل مع «صالح» الخارج من السجن منكسراً، سرق الظلم عمره من بين يديه، ارتقيت به جاعلاً منه بطلاً، لأنه يلامس حياة الناس، وأحب العمل التاريخي، فأداؤه أسهل لأن التلوين فيه أقل واللغة محددة بالفصاحة، لكن ما يجعله صعباً، هو كون مخيلة الناس ترسم لكل شخصية تاريخية صورة يجب أن تلبيها لكل مشاهد على حدة، أعرف شخصية ناظم كزار في الذاكرة الجمعية، فأديتها خلال مشهدين في أعماق الأزقة، تأليف باسل الشبيب وإخراج أيمن ناصر الدين، استحضرت روحه من خلال أفعاله؛ فنجح المشهدان في تصدر المسلسل.


*في كثير من الأوساط الفنية والثقافية يجري الحديث عن صراع أجيال، هل تجد هذا الصراع حاضراً في حياتك الفنية؟


-أبداً.. الساحة تتسع للجميع، ثمة من لا يفهم آليات التفاهم والانسيابية المرنة، في العمل الواحد الذي يحتاج إلى أعمار متباينة، أنا لست شخصاً متظلماً شكاءً، لذا أقول ثمة أفراد في الجيل السابق لم يستوعبوني، وضعوا لي عراقيل، لكن الحتمية التاريخية تبسط سطوتها من حيث لا بد من حلول جيل جديد إلى جانب القديم، يتكاملان، وأشار إلى أن: الجيل الجديد لا يؤثر على القديم؛ لأن ذاك أخذ وقته وأتم تجربته وترسخ في الذاكرة، بالمقابل ثمة جيل جديد لا يحترم السابقين عليه، للأسف يستعجلون الشهرة ويظنون مصادرة الآخرين تفتح طريقهم، لكن ذلك يوقعهم في مطبات، أنا لست مع الشهرة السريعة حتى لمن أوتي موهبة خارقة، لا بد من معاناة لإثبات الجدارة، كي تكون قوياً، تقدر قيمة النعمة التي أسبغها الرب عليك، ولا بأس من تجربتين فاشلتين.

مبيناً: الموهبة ضرورية لكن وحدها لا تكفي، الفنان يحتاج إلى وعي مرن وثقافة متنوعة وتدريب مستمر، فضلاً عن ضرورة معرفة الفنان بحجم موهبته كي ينميها من دون خرق لحدودها وهو خرق قد يورطه في مهمة أكبر منه تكشف ضحالته.

على الإنسان عموماً إدراك موطئ قدميه، وحجمه، وتأثيره، ثمة متوفرون على مواهب كبيرة ظلموها، أما في التمثيل فيجب أن يكون الفنان موسوعياً، ليس فقط يعرف شيئاً من كل شيء، وتلك صفة الإنسان الحضاري.

الممثل يحتاج أكثر من الاجتزاءات والملخصات، كل دور يستلزم إحاطة تفصيلية بطريقة أكل أبي العلاء المعري وطقوس سلفادور دالي في الرسم وكيفية استخدام قتيبة الشيخ نوري لمشرطه كطبيب وفرشاته كرسام، فمهنتنا تتعامل مع العقول، الممثل قدوة، والشخصيات يجب أن يجيد الممثل ايصالها بأجمل وأبلغ أداء. مهنة التمثيل خطيرة وصعبة، مرة أسند لي دور فيه “حسجة” كتبه د. صباح عطوان.. أسأل المخرج يقول: لا أعرف، ولأن الدراما العراقية تنوء بغياب رقيب اللهجة، أديته أداءً ببغاوياً، وعندما شرحوا لي معاني المفردات وجدت قصوراً فظيعاً في أدائي عما لو اطلعت على

المعاني.


*هل يجب أن تكون للفنان أولويات قيمية يعمل على أساسها ويختار الأدوار بناء على مفاهيمها؟


-عندما أقول: أنا مجنون تمثيل، هذا يجب ألا يفهم أنني أحلق في فضاءات غير مسؤولة عن الواقع، الفنان حامل رسالة، رسالة تربي جيلاً أو تهدمه، يجب أن تتوفر رسالة مجتمعية في عموم مشروع الفنان وفي مفاصل أعماله: مسلسل، فيلم، مسرحية، واحدة واحدة، وفقاً لحسابات دينية ووطنية واجتماعياً وإنسانياً لا ننكر أن جزءاً كبيراً من العمل الفني للمتعة وحيزاً واسعاً للجمال، لكن هذين الجانبين لا بد من ايصال رسالة عظمى تحت مظلتيهما، لا بد من متعة ودهشة وجمال مطلق، يترتب وفقاً لأولويات قيمية وإرشادية تشكل عمقاً مؤثراً من دون فجاجة  المباشرة.

أكرر التزامي منطقة الهواية رغم احتسابي ضمن المحترفين، أتوجه للعمل وكأنني أمثل للمرة الأولى، لا أشتغل عملاً إلا إذا أحببته، تسعدني آراء الناس أكثر من المهرجانات؛ لأن المحبة لا مجاملة فيها، تسحرني العودة إلى الطفولة، بالرغم من كوني من أسرة فقيرة نتغدى “محروك إصبعه”.