أحمد كاظم خضير
يعد السيد جعفر الحلّي النجفي {1861 - 1898} من عظماء الشعر العربي، ولست بصدد الحديث المجمل عن شعره، ولكن لهذا الشاعر تراكيب عجيبة يجمع فيها أكثر من معنى بسلاسة فائقة وعميقة تحتاج وقفة لفهم المعاني المتعددة التي يريدها بمفردة واحدة.
أنا سميتها "التورية العميقة أو ما بعد التورية"، وهو ما لاحظته في كثيرٍ من قصائده، فديوانه زاخر بمثلها، ما ينمُّ عن عبقريَّة شعريَّة نادرة، وهذه بعض الأمثلة التي توضح ما أقصد، يقول: "أشكو الى عينيك من سقمي بها/ شكوى عليلٍ في الهوى لعليلِ".. هنا مفردة "عليل" الأولى أراد بها المريض، والثانية أراد بها العذب وما يُتعلل به كقولنا النسيم العليل، فضلا عن المعنى الأول ايضاً.
أما في: "بي حُرقةٌ لو أنها بيُلملمٍ/ نسفت جوانبه وساخَ يُلملمُ".. فإن (يُلملم) الأولى اسم جبل واقتنص بـ (يلملم) الأخرى اسم الجبل والفعل "يلملم" المبني للمجهول، فأعطى معنى آخر بأن الجبل بعد النسف أصبح يلملم كالفُتات!
وفي مقطع: "لي قلمٌ أخرسُ لكنه/ ينطق عن معجب أفكاري/ برأته حياً ولكنه/ ما أحسن الشكر إلى الباري".
الاشتغال هنا بمفردة (الباري) أراد بها معنى اسم الفاعل ويقصد الذي يبري القلم، ويقصد أيضا اسم الله (الباري)، فيكون المعنى العام للبيت قد اشتمل على كلا المعنيين.
*وهذا حال كل تورية.
وفي مقطع لقصيدة أخرى يقول: "يا قاتلي باللحظ أول مرةٍ/ أجهز بثانيةٍ على المقتولِ/ مثّل فديتكَ بي ولو بك مثَّلوا/ شمس الضحى لم أرضَ بالتمثيلِ".
في البيت الأول أراد معنيين بمفردة (ثانية) الأول عدد المرات وقصد مرة ثانية، والآخر أراد السرعة والوقت وأن لحظهُ سريع بالقتل يُجهز بثانية واحدة فقط.
وفي البيت الثاني استخدم الفعل (مثّل) وأراد به معنى التمثيل بالقتل، والفعل الآخر (مثّلوا) اراد به التشبيه.
وعن بيت: "وجهُ الصباحِ عليَّ ليلٌ مظلمُ/ وربيعُ أيامي عليَّ مُحرَّمُ".
فقد أراد بكلمة (محرم) الحرمة وبأن الربيع حُرِّم عليه، وأيضا قصد بها شهر محرّم.
كما في: "واديكَ يسقي والوهادُ عواطشٌ/ وحماك يضحك والسنون قواطبُ".
فإن (السنونُ قواطبُ) هذا التركيب المدهش الذي جمع بكل كلمة معنيين فـ(سنون) جمع "سنة" وتأتي أيضاً بمعنى "الأسنّة"، وكذلك (القواطب) لها معنيان الأول القواطع وعنى بها الأسنة، والثاني انها كالحة وكئيبة وعنى بها السنين.
الأغرب أن الفعل يضحك ينطبق على الكل، فإن الحمى يضحك رغم بؤس السنين دلالة الكرم، وأيضا يضحك في المعارك دلالة النصر!
"لامُ العذار بعارضيك أعلّني/ ما خلت تلك اللام للتعليلِ".. ومعنى الشطر الأول بأن شدة الشعر النازل على خديك أصابني بعلة، الشطر الثاني مفتاحه بمفردة (التعليل) هنا اراد المرض وأراد لام التعليل التي في اللغة، (لام العذار) حدة الشعر النازل على الخد (لام التعليل) هي اللام في اللغة والتي تبين العلة (السبب) فهنا جمع بين معنيي كلمة "العلة" (المرض والسبب) بصياغة عجيبة! أما "عبست وجوه القوم خوف الموت/ والعباس فيهم ضاحك متبسمُ".. (العباس) أراد به اسم الإمام العباس عليه السلام أخو الحسين، وتقابل مع (عبست) والعباس صيغة مبالغة من عابس ولكن أصبح هذا العباس الذي من المفروض ان يكون اكثرهم عبوساً اصبح هو الضاحك المتبسم الوحيد، فهو قد ذكر الاسم وأراد معنى الاسم أيضاً. وفي بيت: "حسامُ هدىً قد أرهف الله حدَّهُ/ فأحكمه متناً وحددهُ غرباً" يمدح أحد الولاة، الشطر الثاني من أكثف ما جمع به من معانٍ حيث ان لكل كلمة فيه أكثر من معنى: (أحكمه متناً) تشبيهاً بمتن القرآن المُحكم وليس المتشابه، وأيضاً قصد أنه ضبط قوته فسواه متيناً قوياً.
(حدده غرباً) المعنى الاول شحذهُ بحدّة، والمعنى الثاني حدده من جهة الغرب. والمدهش ايضاً أن (الحسام) -والذي يقصد به الوالي- ينطبق مع المعنيين كليهما!
وفي: "ما شدَّ غضباناً على ملمومةٍ/ إلا وحلَّ بها البلاءُ المبرمُ" جاء الفعل (حلَّ) بمعنى أصابهم البلاء، وأيضاً بمعنى فتح وحلّ هذا الجمع الملموم.
وكذلك كلمة (المبرمُ) اعطت معنى الثقيل الشديد ومعنى المغزول الملفوف، فهو حلّ تجمعهم بجمعه للبلاء عليهم!
وفي: "عرفَ المواعظَ لا تفيد بمعشرٍ/ صموا عن النبأ العظيم كما عموا/ فانصاعَ يخطبُ بالجماجمِ والكلا/ فالسيف ينثرُ والمثقفُ ينظم" يتكلم عن شجاعة العباس بن علي في القتال، وبعبقرية يشتغل اشتغال لغوي - حربي وكلماته العجيبة ذات المعاني الكثيرة، حيث (ينثر) بمعنى النثر الأدبي، وبمعنى ينثره في الهواء.
و(المثقف) هنا يقصد الرمح المقوم الذي يسمى مثقفاً، وكذلك قصد به المثقف بالمعنى الحديث الذي يمتلك ثقافة. و(ينظم) أتت بمعنى نظم الشعر، وأتت بمعنى يقوم بالتنظيم.
وكل هذه المعاني تنسجم مع (يخطبُ) في الشطر الأول والتي تتفق مع كل المعاني، فصار كأنما يقول نثراً بسيفه وينظم شعراً برمحه، وأيضاً المعنى الآخر بأن سيفه ينثرهم في الهواء ويترك المثقف معجباً بشجاعته.
هذه نماذج بسيطة من شعره وهناك الكثير مما لم أحط به، وربما يكون لدى القارئ المدقق معانٍ أدق وأعمق، وديوانه (سحر بابل وسجع البلابل) مليء بالعجائب من الشعر الحقيقي وأنواع البديع وقوة اللغة وجزالة
اللفظ.