جواد علي كسار
(1)
تتهافتُ الكلمات وتتهاوى أمام واقعة العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة، فمهما بلغ الكلام من الفصاحة، ومهما ارتقى شأواً عالياً من البلاغة يبقى عاجزاً عن مستوى مصارع الكرام، ومصرع الإمام سيّد الشهداء في كربلاء.
بيدَ أنَّ المذهل حقاً أنَّ هذا العجز في الإنسان حرّك مكنوناته الداخليَّة، فتفجّرت ينابيع العقول تكتبُ عن الحسين وواقعة الطف، وانطلقت قريحة الشعراء منذ أول يوم الحسين ولم تزل، وقد احتشدت أدوات التعبير الأدبيَّة والوجدانيَّة وصورها الفنيَّة، في الحديث عن ذلك المشهد، وتوالت القرون والأزمان وما زالت كربلاء أقصوصة سؤددٍ ومجدٍ وحقّ، تتواصل في النفوس والوجدان والعقول، وتبرز مظاهر كريمة في الشعائر وحركة الإحياء الحسيني.
هكذا كانت كربلاء، وهكذا ستبقى ويبقى معها هتاف زينب حاضراً: "فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوا الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا".
(2)
ما إنْ سقط آخر شهيدٍ من شهداء الطف في واقعة ما بعد ظهر العاشر من محرم الحرام سنة 61هـ، حتى انطلقت حركة الإحياء الحسيني في أرض الطفوف نفسها، بمواقف عقيلة الأسرة الهاشمية زينب بنت علي، والإمام علي بن الحسين السجاد، ثمّ توالت حلقات الإحياء في الزمان والمكان دون انقطاع، حتى وقتنا الحاضر.
لولا حركة الإحياء الحسيني بأشكالها المنوّعة وأداءاتها المختلفة، لصارت واقعة كربلاء أثراً بعد عين، ولطُمست معاني يوم الحسين وتضحياته وأنصاره وأسرته. فبالإحياء ومن خلال مظاهره المكثّفة، وبإصرار الجمهور الحسيني على ذلك دامت كربلاء، في صلة غير بعيدة عن إرادة السماء.
في حديث جامع يشير الإمام جعفر بن محمد الصادق، إلى مشروعية عدد من مراسم الإحياء الحسيني وتأريخية شعائر الإمام سيد الشهداء، ويشيد بها مجتمعة في كلام له مع أحد الرواة، يذكر فيه ما يجري عند مرقد جدّه الحسين، وهو يقول في نبرةٍ مستَخبِرة: «بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً غيرهم، ونساءً يندبنه.. فمن بين قارئ يقرأ، وقاصٍ يقصّ، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي» فيجيبه الراوي، بقوله: نعم، قد شهدتُ بعض ما تصفه.
عندئذ يقول الإمام الصادق: "الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا، ويمدحنا، ويرثي لنا".
(3)
ليست المسألة قاصرة على حديث أو اثنين، بل اللافت للنظر كثافة الأحاديث والروايات والنصوص المأثورة الحاثّة على إحياء يوم الحسين، وإبقاء جذوته مشتعلة في النفوس والضمائر والعقول على مرّ القرون وإلى أبد الدهر، إذ تبلغ هذه النصوص مجتمعة المئات.
بديهيٌّ أنَّ مراسم الإحياء الحسيني في تمظهراتها المشروعة ليست وليدة اليوم، ولا هي من سنخ الممارسات المستحدثة، بل لها في تأريخ المسلمين وقاعدة الولاء الشعبي لأهل البيت، امتداداً إلى القرن الهجري الأول، وهي تخضع في شكلها الاجتماعي وتعابيرها الأدائية، إلى إطار تشريعي يؤسّس لمشروعيتها، ويحثّ على ممارستها في أوساط المسلمين كافة.
في سبيل تحقيق ذلك ترسّخت في الوعي العام للأمة ولاسيّما قاعدة الولاء، جملة مسارات لإحياء ذكرى السبط الشهيد والإبقاء عليها، كان منها الزيارة وشعر الرثاء ومآتم العزاء والمواكب والإطعام وما شابه.
هكذا صار لمراسم العزاء والإحياء بمجموعها العام، منطلقها في التخطيط الديني وفي الفكر السياسي والاجتماعي للنبي وأئمة أهل البيت، حين ركّز الأئمة على تحويل نمط الإحياء إلى ما يشبه المؤسّسة الكاملة، وهي تنطوي على أهداف عقدية واجتماعية وتربوية وثقافية وسياسية، تعاضدَ على تحصين ممانعتها الرافد الديني في المشروعية، والمراكمة التأريخية في الممارسة والأداء، ما يحوّلها إلى ذخيرة عظيمة في واقعنا العراقي الحاضر، لو توفر لها التخطيط البصير، والاستثمار الواعي الحكيم، وهي تتحرّك دائماً أبداً في المدار الحسيني وأفقه المضيء المبين.