عربة الصمت

ثقافة 2019/06/14
...

ابراهيم سبتي 
منذ ثلاث ساعات والعربة صامتة لا تحب الكلام .. بجانبي عجوز ينظر عبر النافذة وهو يلوك بعلكة .. القطار السائر في البر الشاسع يصدر زعيقا مزعجا . امامي تجلس امرأة اربعينية كما يخيل لي ، مطأطأة  راسها في الارض . الجو معتدل والسماء ملبدة بغيوم سود مخيفة وبالكاد تُرى الاشياء من النافذة رغم ان الوقت ظهرا .. وعلى يمين المرأة  يجلس رجل ثلاثيني ـ كما خمنت ـ ببدلة سوداء انيقةولكنه بدون ربطة عنق تاركا الزرين الاخيرين من قميصه الابيض مفتوحتين .. الزعيق يحوم حولنا وصمت العربة يتبخر مع كل صفير يطلقه القطار الذي يسير ملتويا كأفعى خجولة .. الثلاثيني كان يسترق النظر الىالمرأة المتسمرة بالأرض فيما ظل العجوز يبحلق بعينيه الى الخارج الذي صار النهار فيه اشبه بغروب جراء الغيوم السود المتراصة . ثلاث ساعات تحولت العربة فيها الى صفيحة قمامة .. الاوساخ والنفايات انتشرت بغرابة اسفل المقاعد وفي الممر الضيق. الركاب يرمونها بكل سرور وصاروا كأنهم يجلسون في مكب للنفايات ولكن لا كلام . لم اسمع صوتا او حديثا الا بالهمس  غير صكصكة العربة المتهالكة التي يبدو انها صنعت قبل خمسين عاما . فجأة ظهر بائع متجول يحمل ترمسا معدنيا صغيراواكوابا من البلاستك الخفيف . شاي ، شاي .. مُدت الاذرع حاملة النقود لتعود حاملة الاكواب الممتلئة بشاي ينفث دخانا . بعد دقائق رميت الاكواب وغرقت العربة بنفايات خلت انني لم استطع النزول بيسر او السير في الممر الوحيد هذا .. انه منظر بشع . المرأة الاربعينية بدأت تتملل في جلستها وبدا ان الثلاثيني الانيق قد ارسل لها ابتسامة ولكنها صدتها بالتفاتة سريعة نحو النافذة فيما راح يرمقني بنظراته التي اراد اثبات انه راكب متزن محترم . لم يكن الفضاء الخارجي قد تحسن كما اردت ، بل كان يتعقد وتشتد الريح كما رأيت الاشجار التي نمر ببعضها وهي تتحرك بعنف كخائف وسط الموت . العجوز اخرج منديلا وراح يمسح عينيه وانفه ثم اعاده الى جيبه بحركة رتيبة ، الا انه نظر الى المرأة نظرة فيها اسئلة وربما فيها اشياء لا اعرف مداها . كانت تنظر نحو النافذة وبدت غير مبالية بشيء .  اطل علينا بائعاخر وهو يحمل بعض قناني المشروبات الغازية  . لم ننظر صوبه ولم ار احدا منا نحن الاربعة قد اشترى منه ، الا ان اغلب العربة كانوا سعداء وهم يرتشفون المشروب البارد ذو نكهة البرتقال كما مرسوم. بعد ان انتهوا من حفلة الشرب رموا بالقناني الى الممر الذي خلت بانه يئن من هول النفايات التي جثمت عليه وصار المنظر اكثر بشاعة . المشهد في الخارج يشي بشيء من الخوف في دواخلي ولا اعرف لما كان يمور في راسي كلما تقدمنا . كان القطار يسير ببطيء وكانه امرأة تحمل جنينا في احشائها ويتلوى مرتخيا  . لم يصدر اي صوت لكلام من اي راكب عدا بعض الهمس الذي يتراءى لي انه قادم من المقاعد القريبة . مشغولون في اخراج ما يخبؤنه من حقائبهم من اكلات وسواها . دخلنا في الساعة الرابعة وهم مازالوا يمضغون بمنظر مقززالهببداخلي الاشمئزاز والقرف ، ولكني لا اقدر على فعل شيء سوى النظر بصمت . تصاعدت تلال النفايات في الممر وتحت المقاعد وكأنهماقسموا على ترك العربة بوزن مضاعف . فجأة دوى اطلاق نار في العربة ولكنه ليس قريبا مني . تصاعدت الفوضى وتصارخت النسوة ، وكأن صراخهن قد شق جدران العربة من هوله . نهض الرجال بفزع وهم يتفحصون الامر فتجمعوا قرب المقاعد الامامية وكنت قد نهضتملتحقا بهم ، فيما ظل الانيق والعجوز والمرأة في مكانهم . ثلاث اطلاقات دوت وانتهى كل شيء رجل ممدد فوق النفايات والدم يسيح من صدره كالميزاب . مرت الدقائق والفزع علا الوجوه ولم يتكلم اي راكب عما حصل . القطار يسير بافعوانيته المملة لكننا غرقنا في ظلام دامس ، قال احد الرجال باننا ندخل نفقا . القتيل ظل ممددا ولا احد غيرنا قربه . القطار يسير في ظلمة مقيتة فتراقص ضوء ولاعّات بعضهم . القطار لم يجتز النفق بعد عندما قررنا حمل الجثة والتوجه الى كابينة السائق فتهادى الينا اصوت تهديد وتشابك ووعيد وصياح يبدو انها مشاجرة عنيفةفزاد خوفي . تركنا القتيل وخضت مفزوعا بين اكوام النفايات قاصدا مكاني مع الاخرين . لمحت مقعد الانيق خاليا وقد اختفت المرأة معه . مازال النفق طويلا حين وجهت نظري الى العربة التي خلت تماما من الركاب حتى العجوز القريب مني قد اختفى هو الاخر . العربة خالية الا مني وجثة القتيل الممدة . الظلام الذي كانت تنيره بعض ومضات ولاعات السجائر ، قد اختفت. لا ولاعة عندي ولكني اسمع عربدة العجلات وهي تسير مترنحة على السكة ولا سواي . مرت الساعة تلو الاخرى والايام تترى وتترى ومازال القطار يجتاز النفق حتى خلت اني سأموت من رصاصة او من العطش ولم اعد ارى من النافذة شيئا وتساءلت  ، اين ذهب الركاب ؟