عطاءٌ وتضحياتٌ خالدة

ريبورتاج 2024/07/17
...

د. صادق كاظم

كانت الأوضاع التي مهَّدت لخروج الإمام الحسين (ع) الى الكوفة تستحقُّ أنْ يتصدى لها رجلٌ عظيمٌ كالإمام (ع) الذي كان المؤهل فعلياً لإدارة دفة التغيير بعد أنْ أوصد الطغاة كل الآمال والفرص بإقامة نظامٍ عادلٍ بعيدٍ عن مخلفات الجاهليَّة ورواسبها وآثارها التي حرص الطاغية يزيد على إعادتها وإحيائها من جديدٍ بعد أنْ عمل الإسلام وخلال الحكم الراشدي على إلغائها وإعادة تشكيل الهويَّة الثقافيَّة والسياسيَّة للمسلمين باتجاه ديموقراطي ثوري يقومُ على أسس العدالة والمساواة والحريَّة.
كان الطاغيَّة يزيد يمثل استمراراً للمدرسة الجاهليَّة السابقة التي يمثل يزيد أحد أسلافها، حين عمل على ضرب الثوابت الإسلاميَّة التي كانت متداولة ومعروفة والمتمثلة بالحكم الشوروي وإجماع الأمة والانتخاب بحريَّة من دون ضغطٍ أو إكراهٍ، إذ استبدلها بثوابت أخرى تقوم على البيعة بالإكراه وبالسيف والقوة وانتزاع الشرعيَّة في الحكم بالتآمر واغتصاب الخلافة وشراء الذمم بالرشاوى والأموال وغيرها، الأمر الذي أثار نقمة الأمة الإسلاميَّة التي وجدت في يزيد وأعوانه طغمة انتهازيَّة تحاول إعادة الأمة الى العصر الجاهلي ونسف قواعد الدين الإسلامي المحمدي الأصيل.
استبق الإمام الحسين (ع) الأحداث فقرر إحداث التغيير وطلبَ من القواعد الشعبيَّة والجماهيريَّة المؤمنة بخطه الرسالي النبوي التهيؤ والاستعداد لمعركة التغيير، حيث كانت الكوفة المعقل الرئيس المؤثر والمهم ومركز الثقل للثورة والقاعدة الجماهيريَّة والخزان البشري لها وهو تصرفٌ منطقيٌّ وصحيحٌ من قبل الإمام الذي كان عازماً على التغيير ولم يكن هناك أي حلٍ آخر أمامه.
إنَّ الروايات التي تتحدث عن تجاهل الإمام (ع) للنصائح التي قدمت له بتجنب الكوفة؛ لأنَّ هناك فخاً قاتلاً بانتظاره ودعوته للبقاء في مكة أو الذهاب الى جبال اليمن هي في الواقع رواياتٌ مزيفة وكتبت من قبل أجهزة الإعلام العباسيَّة التي كانت تكنُّ العداء للعلويين وتحاول تشويه صورتهم وهي حالها حال رواية معقل التي تتحدث عن جاسوسٍ وهمي اخترق صفوف الثوار بسذاجة واضحة وتمكن من كشف أسرارهم وتنظيماتهم وقادتهم ونقلها الى والي الكوفة عبيد الله بن زياد الذي تمكن لاحقاً من قتلهم وإبادتهم.
إنَّ الإمام الحسين (ع) حينما قصد الذهاب الى العراق إنما كانت تحركاته بناءً على معطياتٍ ووقائع وأحداثٍ كانت تشجع على ذلك، لكنَّ الارتباك الذي حصل في صفوف الثوار ومجيء قواتٍ ضخمة من الشام الى الكوفة بوقتٍ مناسبٍ مكنها وبناءً على معلوماتٍ استخباريَّة من السيطرة على الكوفة وإبعاد الثوار عنها وقطع جميع خطوط الإمداد بينها وبين الإمام الحسين (ع) ضمن رؤية وتفسيرات تؤكد حصول مناوشات وعمليات قتالٍ متقطعة قبل يوم العاشر من محرم بين الثوار والجيش الأموي الذي حشد قواتٍ ضخمة مدعوماً بقوات من المرتزقة المأجورين بلغ عددها 25 ألف جندي والذي ليس من المعقول والمنطقي أنَّها جاءت لقتال أكثر من 70 رجلاً فقط وهي الروايات التي يصرُّ بعض المؤرخين على تدوينها في كتبهم من دون التمعن فيها أو التحقق منها.
لقد جسد الإمام الحسين (ع) أعلى معاني البطولة والشجاعة، إذ لم تنل الحشود الضخمة التي جاءت لقتله مع أهل بيته من عزيمته وإرادته ولم يقبل التنازل والخضوع لإرادة يزيد وعصابته الإجراميَّة الحاكمة، بل قدم أسمى معاني الفروسيَّة والبطولة والشرف، حين واجه تلك الجيوش الضخمة التي انتهت من قتال أنصاره قبلها بأيام بمفرده وأصرَّ على قتالها بعزمٍ وإباءٍ علوي محمدي حتى استشهد عليه السلام في ميدان المعركة بطلاً شجاعاً أبيَّاً.
لم يهنأ يزيد بنصره المزيف المؤقت، بل كانت ثورة الإمام الحسين ومصرعه يوم الطف بداية النهاية لحكم يزيد وزواله، إذ انفجرت الثورات ضده وضد طواغيته في مختلف أرجاء العالم الإسلامي والتي بقيت مستمرة حتى سقوط نظام الحكم الأموي بأكمله وزواله في سنواتٍ معدودة بعد ذلك.
إنَّ ثورة الإمام الحسين (ع) إنَّما حصلت لدوافع ثوريَّة من أجل إقامة نظام العدل الإلهي والحريَّة لجميع أبناء العالم الإسلامي، إذ كان الإمام (ع) القائد المؤهل لإقامتها وتحقيقها والتي أعطت للأمة الإسلاميَّة أبلغ معاني الشموخ والإباء في كيفيَّة أنَّ مبادئ الحق والعدل والشرف يمكنها الانتصار على الطغيان والظلم والجبروت مهما كانت قوته وإمكانيته؛ لأنَّ الحق والعدل في النهاية هما من ينتصران.