حازم رعد
عند التفكير في قضيَّة الإمام الحسين وثورته على يزيد بن معاوية وما رافقها من ملابسات وإرهاصات بدأت منذ خروجه من المدينة الى مكة ثم توجهه الى العراق، تتبادر الى الذهن العديد من الاستفهامات والأسئلة وتلحُّ على الذهن في إجابة عنها. ومن تلك الأسئلة المهمة هو أنه لماذا اختار الإمام الحسين أرضَ كربلاء لقتال يزيد ولم يبق في الحجاز حيث البيت الحرام والمسجد الحرام وحيث وجود الأنصار والأصحاب وبني عمومته وعشيرته «بنو هاشم» وكان من الممكن أن يتخذ من كل ذلك متاريس يقي نفسه وأهله القتل هناك.
وللإجابة على هذا التساؤل يمكن طرح عدة احتمالات تنطقُ كلها بالإجابة عن هذا التساؤل ومنها..
الاحتمال الأول: أنَّه أراد أنْ يبتعدَ عن احتماليَّة استباحة البيت الحرام والمسجد النبوي من قبل جيوش بني أميَّة وهم معروفون بعدم مراعاتهم لحرمة أي شيء، فقد قاموا بعد كربلاء وأثناء إخمادهم ثورة أهل المدينة باستباحتها لأيامٍ وقتل رجالها والتنكيل بالنساء والأطفال ولم يرعوا أي حرمة لمدينة رسول الله، كما أنهم حين احتمى عبد الله بن الزبير في المسجد النبوي وإعلانه العصيان لحكومة الأمويين لم يتردد جيشهم بضرب الكعبة والمحاصرين في محيطها بالمنجنيق، ولعلم الإمام بأنَّ هذا البيت (الأموي) يرعى حرمة ولا ذمة فجعل مسرى حركته صوب العراق وما يؤكد ذلك هو كلامه «ع» لأخيه محمد بن الحنفيَّة حيث قال (يا أخي قد خفت أنْ يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمه هذا البيت).
الاحتمال الثاني: أنَّه أراد إجابة رسائل ومطالب الكوفيين بالقدوم عليهم وتخليصهم من حكم بني أميَّة وإعلان العراق أول الأقطار التي تعلن التمرد والثورة على الحاكم الجائر، والروايات تشير الى ورود ما يناهز الـ ١٢ ألف رسالة من وجهاء وشيوخ وأشراف الكوفة للحسين كلها تقول له إنَّ الثمار قد أينعت وحان قطافها وإنَّا لك جنودٌ مجندة، ويبايعونه على التضحية والولاء والطاعة، حتى أنَّ الأخبار قد دلت أنَّ مسلم بن عقيل سفير الحسين «ع» الى الكوفة قد كتب الى الإمام الحسين بخبره بأنه قد بايعه من الكوفيين ثمانية عشر ألفاً منهم وطلب منه القدوم، وذلك ليفي بوعده لهم كما ورد في رسالته (ع) إليهم التي جاء فيها [… فإنْ كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرأت في كتبكم اقدم عليكم وشيكاً إنْ شاء الله… ] وفي نصٍ آخر أنه حينما قابل جيش الحر بن يزيد الرياحي خاطبهم بقوله (أيها الناس إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسائلكم أنْ ااقدم علينا فإنَّه ليس لنا إمامٌ لعلَّ الله يجمعنا بك على الهدى والحق) فكلامه واضحٌ بأنَّه سيلتحق بالعراق إجابة لرسائل الكوفيين ومكاتباتهم إليه، ووفائه بهذا العهد «إجابته للكوفيين) أمرٌ واجبٌ على الإمام وحريٌّ به أنْ يفعلَ ذلك بعد أنْ تجمعت كل القرائن الأخرى عنده التي تلزم بضرورة النهوض والقيام ضد هذه الدولة المارقة.
الاحتمال الثالث: أنَّه أراد بذلك الخروج الذي يعلمُ يقيناً أنَّه مقتولٌ فيه لا محالة (وخير لي مصرع أنا لاقيه) أنْ يُحدثَ ضجة واهتزازاً إعلامياً كبيراً عقب مقتله حتى يحرك ضمير الأمة المهزوم والعاجز عن مواجهة أهل الجور وسلاطين البغي، فكان قاصداً تلك البقعة من الأرض وهي كربلاء ليتم له أمرُ اتساع صدى الثورة وتوسع ساحات إعلان التمرد على حكومة بني أميَّة، وإلا لو بقي الحسين في الحجاز لكان مقتله حدثاً عابراً في التاريخ ولم يكن له هذا التأثير الكبير الذي يلهبُ نفوس الأمة ويلهمُ الأجيال عبرة وعبرة، أو أنَّ العدو كان قاصداً لأنْ ينهي حياة الحسين «ع» في الحجاز حتى يعتم على مصرعه وبذلك ينهي أهدافه المرجوة من الخروج، والإمام الحسين كان عالماً بمخطط الأعداء ولذلك استبق الخروج الى العراق ليثير جلبة وضجة إعلاميَّة كبيرة تلهبُ نفس الأمة وتحرك رجالها للانقضاض على حكومة بني أميَّة وتسقطها، وهذا عينُ ما حصل بعد كربلاء، فقد تفجرت الثورات عقب استشهاد الإمام الحسين «ع» ولم يبق هناك مكانٌ يأمن فيه بنو أميَّة ولم يستقر لهم حكمٌ بسبب الثورات تلك بدءاً من ثورة أهل المدينة وثورة التوابين وثورة المختار الثقفي وثورات على طريق الشام عند مرور ركب السبايا وثورة زيد الشهيد وما تبعها من ثوراتٍ عديدة حتى ضعفت وأسقطت حكومة الأمويين بعد كل
ذلك.
الاحتمال الرابع: كان الإمام الحسين يريدُ النجاة بنفسه من البيعة ليزيد فكان رافضاً لهذا الأمر شديدَ الرفض ولكنْ كان في المقابل يريدُ النجاة بنفسه من الاغتيال فحتى يفوت الفرصة على يزيد كان عليه الخروج من الحجاز وبذلك لا يبايع وأيضاً ينجو بنفسه وعياله، ولكنْ حين حاصره جيش يزيد في صحراء كربلاء وخير بين الأمرين بين أنْ ينزلَ عند حكم يزيد ويبايع وبين أنْ يقتلَ، اختار الأخير لأنَّ هذا الأمر أسلمُ لدينه وذمته وأجدى للأمة من بعده وفضل الموت على ركوب ذلك العار (ألا إنَّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة).
الاحتمال خامس: أنَّ أرض كربلاء «بحسب الفهم التقليدي لواقعة كربلاء» هي الأرض المختارة لحدوث تلك الفاجعة وهذا ما يستشفُّ من عددٍ من الروايات التي تخبر بذلك والتي فحواها أنَّ كربلاء هي محطُّ رحال ركب الحسين «ع» وفيها يكون مصرع الرجال وسبي النساء والأطفال، فقد ورد عن الإمام الحسين «ع» كما في كتاب «اللهوف في مقتل الحسين» أنَّه قال (الموعد حفرتي وبقعتي التي استشهد فيها وهي كربلاء) وغير هذه الرواية العديد من الأخبار والآثار الناطقة بأنَّ كربلاء هي الأرض المختارة التي تجري عليها مأساة الحسين وآل بيته الطيبين.