الظمأ الأنطولوجي.. حاجة الكائن البشري للدين
سبعينيَّة الرفاعي
أصعبُ مهمَّة يمكن أنْ يتعهدَ بها إنسانٌ، هي إتيانه بجديدٍ في موردٍ يباشره الناس كافة. الناس تتكلمُ بأجمعِها، لكنَّ من يجعل كلامه، مجرد كلامه فناً سيكون قد راهن على المحال وكسب.
المؤمنون بما يفعلون لم يجترحوا موضوعاتهم من عدم، بل فتشوا أولاً وقبل كل شيء عن الجديد فيهم، عن النادر الذي يستوطنهم ثمّ أضاؤوا العالم من حولهم فبدا غضاً كأنَّه ولد للتو.
تحلُّ هذه الأيام الذكرى السبعون لولادة المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي. سيكون أمامنا درسه الأجلى: أنه جعلَ من موضوعٍ تناوبت عليه الأفهام قديماً وحديثاً حاضراً كما لو أنه بكرٌ ابن يومه، وجعل من موارد يظنها الآخرون قد بليت دالَّة بعمقٍ على رهانات الحاضر.
هل يمكن أنْ يصبحَ علمُ الكلامِ جديداً؟ وهل بمقدورنا التقاط النزعة الإنسانيَّة من اشتباك العقدي بالفقهي في المدوّنة الدينيَّة؟ وهل بإمكان الإيمان أنْ يغدو قنطرة للتلاقي، بدلاً من أنْ يكون سياجاً لتحديد الملكيَّة ورسم معالم الهويَّة؟
هذه الأسئلة وسواها هي مؤونة الدرس الرفاعي، الذي استغرق الجزء الأوفى من عمره، الذي بلغ اليوم سبعين ربيعاً، فسنوات الفكر ربيعٌ كلّها.
سنحتفل بسبعينيَّة الرفاعي هنا في {الصباح} بطريقتنا الخاصة. سنخصِّصُ يوم الأحد من كل أسبوع صفحة تحت هذا العنوان {سبعينيَّة عبد الجبار الرفاعي}، داعين الزملاء والزميلات للكتابة فيها.
كل سنة ومفكرنا الأستاذ الرفاعي بوافرٍ من الحياة والكشف.
رئيس التحرير
نجاة عبدالله
سؤالٌ بدأ يؤرقني ويلتفُّ حول ذاكرتي: لمَ لا يكتفي الإنسان بوجوده الخاص ويقعُ على الدوام في براثن الوحشة والغربة؟ وهذا ما أعانيه بإفراط، وأنا أردّدُ مقولة كامل مصطفى الشيبي "وكنت أسأل نفسي ذاك السؤال الذي سأله الحلاج لنفسه ماذا أفعل؟".
ليردّ عليه الرفاعي في كتابه "الإيمان والحب كلاهما يتكلمان لغة واحدة، الحب بلا إيمان فقير، الإيمان بلا حب عنيف، ووحده الإيمان يثري وجودنا ويكرسه، إنْ كان الإيمان يتكلم لغة المحبة والرحمة والسلام".
حينما قرأت كتاب "الدين والظمأ الانطولوجي" لأكثر من مرة، بل لا أبالغ إنْ قلت إنّي حفظته عن ظهر قلب وعقل، اتضحت لي خارطة الرفاعي في تجديد الفكر الديني وفقاً لرؤيته المضيئة.. وكانتْ طروحاته تجيب على كل ما يجولُ في نفسي.
كلُّ ما يكتبه هو رسائل في الإيمان وسط هذا الانهيار الروحي والأخلاقي في القيم، هدفه هو بناء حياة روحيَّة وأخلاقيَّة، يسعى الى تقديم صورة الله ونموذجٍ للتدين يُمكّن الإنسان من المحبة والتراحم ويخلّصه من العنف والتشدد. طالما يردد أنَّ الإيمان بلا حبٍ ورحمةٍ عنيف، هذا ما لمسته من إضاءات روحيَّة عميقة وأنا أتتبعُ تلك الكنوز المعرفيَّة في كتابه.
لا يحبذ العودة إلى ما كتبه، وعزاؤه هو خشية فقدان تلك الوثبة الروحيَّة التي عاشها القارئ، علاقته بكُتبِه التي نذر لها حياة كاملة هي علاقة عاطفيَّة واضحة.
محور كتاب "الدين والظمأ الانطولوجي" يدور كما يذكر الرفاعي حول الحاجة الأبديَّة للدين بوصفه حياة في أفق المعنى.
"أنا كائنٌ ميتافيزيقي لا تتحقق ذاتي إلا حين يتحقق إيماني"، يا لها من مهمة جسيمة في زمنٍ بدأتْ تتبارى فيه الأنياب من هي الأشد لمعاناً وتدبباً، بينما هو منشغلٌ في "بناء الحب إيماناً، والإيمان حباً واكتشاف صورة الله الرحمن الرحيم وتطهيرها ممَّا تراكمَ عليها من ظلامٍ وتوحشٍ، فرحمة الله وطنٌ حينما تفتقدُ الأوطان".
كنتُ وما زلتُ متوجسة في الكتابة عن قامة فكريَّة عملاقة لكنْ سرعان ما تفتحت أساريري حينما قرأت جملته "لا أكتبُ للأكاديميين إنما أكتبُ أشواق روحي وسيرة قلبي وأسئلة عقلي".
وقرأت هذه الجملة التي حدت من مخاوفي وأنا أتناول هذا الكتاب العظيم "الكتاب هو رسالة في الإيمان ووثيقة لإحياء الإيمان وليس كتاباً أكاديمياً".
وفي موضعٍ آخر من الكتاب يقول "أدركتُ ألَّا باب إلا اكتشاف الذات والعمل على بنائها وتربيتها ما دامت الحياة".
كنتُ كلما كتبتُ قصيدة أو رسمتُ لوحة أو دونتُ سيرتي أو عانقتُ أمواج البحر أو ملأتُ شغفي بالطبيعة، أحسستُ أنَّ ثمة ظمأً يرتوي في داخلي، لكني لم أزل متعبة. وحينما شغفتُ بكتاب "الدين والظمأ الانطولوجي" كانتْ تلك العبارة هي مرشدي "الظمأ الأنطولوجي هو حاجة الكائن البشري للدين".
وبهذا فقد دلَّني الرفاعي إلى الطريقة التي يرتوي بها هذا الظمأ ألا وهي الدين. إذ لا سبيل للارتواء غير الدين المطعَّمِ بالإيمان الحقيقي. "الفن يخلّدُ الحياة، إلا أنَّه لا يقدم تفسيراً يؤكد تخليد الحياة"، نعم.. إنَّ القصيدة تشبعُ روحي، كذلك اللوحة والفكرة والصلاة والمناجاة والتدبر، لكنْ ليس كمثل الدين الحق والإيمان الذي يوصلُ الإنسانَ إلى مرحلة الطمأنينة والسلام الداخلي، هذا هو من يروي ظمأ الإنسان ويصلُ به إلى مرحلة الهدوء والسكينة.
وفي الفصل الثاني من الكتاب "تنميط الإنسان": "كل من يستفيق وعيه تخسره الجماعة، لأنَّه لم يعد نسخة من غيره من الأعضاء في تفكيره وتعبيره عن احتياجاته الشخصيَّة". يؤكد فرديَّة الإنسان وضرورة خروجه عن المجاميع التي تتناسلُ بشكلٍ عمودي من دون أنْ يضعَ كلُّ إنسان هدفه ومشروعه الخاص.
وبهذا فإنَّ الرفاعي يقدّسُ الإنسانَ ويرى أنَّ كل إنسانٍ هو ثروة مخبوءة، إذ يقول في الفصل الرابع "الإنسان كائنٌ عميقٌ وفي شخصيَّة كل إنسان بؤرة مضيئة، في الجسد أو العقل أو القلب، حتى أسوأ البشر يمكن أنْ ترى يوماً فيه بؤرة مضيئة مختبئة".
ويذكر في الحق والاختلاف "متاعب حياتنا وحساسيتنا غالباً تأتي من نمط رؤيتنا للعالم والإنسان والحياة، نحن عادة لا نرى إلا لونين في العالم الأسود والأبيض، إذ لا معنى لسجنِ كلّ شيء في ثنائيات مانويَّة". تذكرتُ حينما كنتُ ابنة العشرين وكنتُ مصرَّة على أنْ يكون غلاف مجموعتي الشعريَّة الأولى أبيض واللوحة بيضاءً للفنان التشكيلي سلام عمر، إذ قمتُ بسحب مئة نسخة من الغلاف على آلة الكرافك، لكنْ لم يكن من بُدٍ من كتابة اسمي وعنوان المجموعة باللون الأسود. وإلى كتابة قصيدة داخل المجموعة أسميتها أسود وأبيض. نعم، أنا معك أستاذي العزيز، لكنَّ العالم يخرجُ على الدوام عن تلك الخانتين المغلقتين، لينتصفهما قوسُ قزح بألوانه البهيَّة فيرتدي كلٌ منا ضوءه المشع مؤتمناً على نفسه من شرور العالم. من تلك التجمعات التي تأكلُ من صحنٍ واحدٍ وتعيشُ في بيوتاتٍ بقالبٍ واحدٍ، تحزنُ لذات المصاب وتفرحُ لذات البشرى، من دون التأكد حتى من بياض الفرح أو سواد الحزن.
يرى أنَّ الأفكار هي كائناتٌ حيَّة حقاً، وكما يقول "الحياة لا تطاق من دون إيمانٍ وحياة روحيَّة". نعم، لطالما سددتْ فكرة ما رصاصة في وجه الحزن، وطالما انتزعتْ فكرة أخرى فرحة من قلبٍ متعبٍ، أنا أخشى الأفكار التي تتحول إلى مشاعر، ثم إلى سلوك، ثم طبيعة حياة وأحبها كثيراً حينما تذهبُ إلى الروح وتدثر نفسها برداءٍ أبيض مبتهلة إلى الحق تعالى.
"التدين كما أعيشه يمثل لديّ ظمأً أنطولوجياً لا يروى إلا من خلال التواصل مع الحق تعالى. ثوابت شخصيته الأدبيَّة هي (الإيمان، الأخلاق، الإنسانيَّة".
"السلام الروحي الذي أعيشه إنَّما تحقق لحظة أصبحت حياتي صوتَ غفران".. وهذا ما نراهُ جلياً في شخصيَّة الرفاعي المسالمة، كلماته، أسئلته الكونيَّة، إجاباته، هدوئه، صمته الذي يحتشدُ بموضوعاتٍ ثرة يعكفُ على تفكيكِها ومناقشتها والسلام عليها، إذ ما انتهتْ بكتابٍ جديدٍ يضيء العالم بثروة معرفيَّة، ما أجمل صوت الغفران الذي يتكلمُ به، وهو يردُّ عليكَ حين تسأله عن علَّة ما في هذا العالم الشائك بالتناقضات.
"الدين شعورٌ يقظٌ فوارٌ، إنَّه من جنس الحالات، وكل ما هو من الحالات هو أمرٌ وجوديٌّ تكوينيٌّ، لا يتحقق ويرتوي من دون روافد يستقي منها وجوده". وعن رؤيته للمتصوفة "ما يهمني هو التقاطُ بعض الدرر واللآلئ في رؤاهم المضيئة الرحبة، ممن يتصل بقيم: الإيمان والمحبة والرحمة، وعدم نسيان الذات، والاحتفاء بالجمال والفنون، واحترام كرامة الكائن البشري، والارتقاء بمكانته، والتسامي بمقامه، والتعدديَّة الدينيَّة، والخلاص والنجاة والرجاء، وغيرها من قيم تدين المحبة والتراحم والسلام".
يرفض أنْ يتحولَ المتصوفة إلى شخصيات ميثيولوجيَّة في أذهان؛ الناس كون هذا الأمر يدخلُ في توثين الأشخاص وتعظيم صورتهم، حيث سيتحولون جيلاً بعد جيلٍ إلى منهجٍ له أتباعٌ ومريدون، من دون معرفة دقيقة بشخصياتهم أو بالأهداف التي يرومون الوصول إليها، أو معرفة بمواطن الجمال لديهم، هؤلاء الناس كما يذكر الرفاعي في أكثر من موطنٍ هم في أشد الحاجة للكمال الذي يفتقرون إليه.
"ما نحتاجه هو توظيف رؤية جلال الدين الرومي الجميلة لله، وطريقته في تفسير القرآن الكريم، وفهمه لسيرة النبي الكريم وسنته. هذا هو الرومي الذي كان يعيشُ في الأرض داخل التاريخ وليس الرومي – الميثيولوجي- القابع في مخيلة أتباعه خارج التاريخ".
ونراه يستشهد بمقولة ابن عربي في الحديث عن الإيمان الحقيقي والرحمة بين العباد وعمل المعروف هي الأولى والأحق والأصدق "الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغيرة على الله"، و"لاهوت العشق أولى بالاتباع من لاهوت الفرقة الناجية".
"ما يشوه صورة الدين هو اختلاط الدين بكل شيء" بمعنى أنَّه ضدَّ أنْ يختلطَ الدينُ بالعلمِ والفلسفة والأدبِ والشعرِ والفنِ والقبيلة والأعرافِ والتقاليد، لأنَّه حينها لا يعدُّ ديناً.
لكنّي حين تزهرُ الأرضُ حباً وتتسامى روحي بمحبة الله، وأشعر في أأحيانٍ كثيرة أنَّ الله يكلمني، أتذكر مولاي جلال الدين الرومي، وهو يقول حين يصلُ إلى أعلى درجات الذوبان في العشق الإلهي "وفي روحي حقولٌ كثيرة ووحدك يا الله ربُّ المطر".
"إدراك البعد الانطولوجي للدين من شأنه أنْ يضعَ الدينَ في حقله الذي يكفلُ بناء الحياة الروحيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة في حياة الفرد والمجتمع".
هو ضدّ ترحيل الدين من الانطولوجيا إلى الإيديولوجيا، الأمر الذي يجعل الإنسان ضحيَّة فهم الدين.. مؤمناً إيماناً قاطعاً أنَّ الدين هو ظمأٌ وجوديٌّ وحاجة حقيقيَّة للانغماس في روح الله من دون قيدٍ أو شرط، حاجة تُتممها الطقوس الدينيَّة العفويَّة البريئة التي جُبل عليها المؤمن، والتي لا تخضع إلى أفكارٍ شائعة معتادة توارثتها الأجيال.
"الحبُّ هو من يوجه بوصلة الدين، وليس الدين هو من يوجه بوصلة الحب ولا مُعلّم للأخلاق كالإصغاء لصوت الضمير".
صوتُ الضمير حين يحتضن القلبَ والروحَ يكون خيرَ معلمٍ وخيرَ مرشدٍ لإرواء هذا الظمأ الوجودي، كم نحنُ بحاجة لهذا الصوت للخروج من براثن اللعنة التي أصيب بها الكثير، لعنة التخلي عن الأخلاق والانغماس في عاداتٍ لا تمت للدين بصلة.
"حين ينحطُّ العقلُ يفشل في بلوغ عتبة التفكير الفلسفي العميق. كسلُ أذهاننا، وهشاشة تفكيرنا، وحنيننا للماضي، وشغفنا بالثرثرة، ساقتنا إلى أنْ نحتفي بكولن ولسن وننسى إيمانويل كانط، نحتفي بالغزالي وننسى ابن رشد، نحتفي بابن تيمية وننسى ابن عربي، نحتفي بالمودودي وننسى محمد إقبال. العقول الصغيرة لا تستوعب إلا الأفكار المبسطة الصغيرة. العقول الكبيرة تتسعُ للأفكار العميقة الكبيرة".