هل ما زالت ثقافتنا العراقيَّة منعزلة؟
صفاء ذياب
في العام 2021، كان العراق ضيف شرف معرض الرياض، في خطوة مهمّة للثقافة العراقية، وإخراجها من محلّيتها، وعودتها إلى الحاضنة العربية، وبعد سنتين أيضاً كان العراق ضيف معرض تونس للكتاب، غير أنَّ المعرضين لم يقدّما أيّة صورة حقيقية عن الثقافة العراقية، وهذا راجع للتفكير الذي تديره المؤسسات العراقية في تقديم ثقافتنا التي حصرتها تلك المؤسّسات بالأدب فقط، فتمّت دعوة شعراء وقصاصين ونقاد، وبعض الأكاديميين من تخصصات مختلفة.
في العام الذي تلا الدعوة العراقية، كانت تونس ضيف شرف معرض الرياض، وهنا كانت المفارقة، فعلى مدى 12 يوماً كانت الفعاليات التونسية تملأ أرجاء المعرض ما جعل الكثير من المعنيين وغير المعنيين بالكتاب يأتون لزيارة قاعات معرض الرياض لمشاهدة الفعاليات التونسية التي ضربت رقماً قياسياً في التنوّع، فقدّمت الفرق الشعبية الراقصة، والغنائية، وعروض مسرحية، وفعاليات فولكلورية، فضلاً عن فعاليات أخرى من الصعب حصرها، فتم نقل تونس بثقافتها وفنونها إلى أرض معرض الرياض. في حين اكتفت الوفود العراقية في المعرضين: الرياض وتونس، بالآداب، وربَّما هو ما أضاع وجود الثقافة العراقية، لأنَّها لا تنحصر بالأدب بقدر انفتاحها على الفنون كلّها.
ففي الوقت الذي كانت الثقافة العراقية ما قبل العام 2003 محصورة داخل العراق بسبب حصارين: محلي ودولي، كان المثقفون العراقيون يأملون أنَّ هذه الثقافة ستخرج بعد التغيير إلى المحافل العربية والعالمية؛ إن كانت على مستوى الآداب أو الفنون، غير أنَّ هذا لم يحدث بالفعل.. كيف نقرأ أسباب ذلك؟
ثقافة نرجسية
يعتقد الدكتور ياسر البراك أنَّ العزلة الكبيرة التي عاشها المثقّف والفنان العراقي منذ وصول صدام حسين للسلطة وحروبه العبثية، فضلاً عن الحصار الاقتصادي، كلها انعكست بشكل كبير على عزلة الثقافة العراقية محلّياً ودولياً سواءً قبل العام 2003 أو ما بعده، وأغلب الذين استطاعوا الانفلات من هذه العزلة وحقّقوا حضوراً عربياً أو دولياً عملوا بجهودهم الذاتية أو بدعم من بعض المؤسّسات الثقافية عبر العلاقة الشخصية مع القائمين على تلك المؤسسات، لذلك حقّق بعض الأدباء جوائز عربية، وكذلك فعل الفنّانون في ميادين السينما والمسرح والتشكيل والموسيقى، والسبب الرئيس- في ظنّ البرّاك– أنَّ ثمَّة خللاً بُنيوياً في أصل العلاقة بين السلطة والثقافة والفن في العراق. ففي الوقت الذي كانت فيه الثقافة والفنون مؤدلجة قبل الاحتلال بين مسارين أحدهما يساري– شيوعي والآخر قومي– بعثي مع غياب ملحوظ لمسار الثقافة الإسلامية، فقد أصبحت الثقافة والفنون ما بعد ذلك مشتتة وضائعة وفردية في ظلِّ تشتّت وضياع الهوية الوطنية بعد ضياع مفهوم الدولة وسط هيمنة الهويات الفرعية وصعود ثقافاتها من الهامش إلى المركز، ناهيك عن وقوع وزارة الثقافة ومؤسّساتها المختلفة والاتحادات والنقابات المهنية المعنية بالثقافة والفنون في خانة المحاصصات السياسية والحزبية والمناطقية، الأمر الذي جعل منها ثقافة نرجسية تعتمد على تحقيق الذات من دون التفكير بانعكاساتها على البنية الاجتماعية، فصار الشاعر يكتب لنفسه، والقاص والروائي ينتظر مديح النقّاد، والمسرحي والسينمائي يأمل بالحصول على سفرة سياحية متخذاً من عمله الفني جسراً لذلك، لذلك يمكن القول إننا إزاء ثقافة هجينة هاجسها الرئيس الأنا الفردية الباحثة عن الشهرة أو المال ليس إلاّ، مع استثناءات قليلة طبعاً.
قيود أيديولوجية
ويرى الدكتور رحمن غركان أنَّ الفنون؛ ومنها الآداب، مشاريع شخصية، لأنَّها نبوغ فردي، قد تمدُّ له المؤسسة أو التنظيم شبه المؤسّساتي عوناً، ولكنها لا تصنعه بمعزل عن فرديته، ولا من دون نبوغه وممكناته الاستثنائية، والفنون والآداب العراقية بعد 2003 ذات حضور عربي وعالمي بقدر ممكنات التسويق الإعلامي المتواضع إلى عالم التلقي الهائل، وهو ما يقوم به المبدع أولاً وإعلامه المحلّي ثانياً، وهو تسويق أقل من النوع الإبداعي المنجز، لأنَّ مشكلة الثمين في الفن والحياة الزهد بالدعاية والإعلان الدالّين عليه، وأرى الدعم المؤسّساتي لا يبنى على خطط ومشاريع تسويق مناسبة، بل أقرب إلى الارتجال واستغلال المناسبات ذات المرور القصير العاجل، لأنَّ هائل وسائل الإعلام: الأهلي منها والحكومي، تملأ على عالم التلقي الفضاء، ويغطّي الكم السلبي على النوع حتَّى بلغ منه مرتبة الطرد!! عناية المتلقي بمنجزات الآخر في العالم جاءت على حساب المنجز المحلّي أيضاً، وهناك منافسة هائلة في المعروض الإبداعي الذي يحرص فيه صاحبه على تمثّل عصره بعناية باعثة على الالتفات إليه والعناية بقراءته. على حين لا يجد الفنان والأديب حرية تسع التعبير عن متبنياته بإبداع يغري الآخر المختلف، العربي منه والعالمي بمتابعته والوقف عنده، لأنَّ حرية المنجز النوعي عندنا ولاسيّما في الفنون والآداب لم تتحرر من القيود الأيديولوجية.
أوهام ثقافية
من جهته، يكشف الناقد علي سعدون أنَّ الثقافة العراقية وعلى مدى عقود أربعة، كانت تركن إلى نوع واحد من التثاقف بسبب هيمنة هائلة للسلطة شديدة المركزية بحمولات أيدلوجية قامعة، الأمر الذي جعلها تنغلق على نفسها بشكل مطلق، إلّا بالنزر اليسير الذي استطاع أن يعبر حدود ما كان مغلقا وعصيّا على الانفتاح. وهو أمر طبيعي استناداً لمعطيات سياسية كانت تدسُّ أنفها في التفاصيل الثقافية. ناهيك عن أثر الحصار والعقوبات الدولية على العراق التي مهّدت لخراب طويل في بنيتها وفي إنتاجها واستهلاكها.
الأمر المحزن والمخيّب للآمال أنّ فرصة التغيير في مفاصل الحياة كلّها وبضمنها الثقافة بعد الاحتلال، لم تكن سوى وهم من أوهام ثقافتنا، بسبب صعود نجم عدد من العسكريين والموظفين وأرباب المهن الأخرى البعيدة عن هموم الثقافة وتطلّعاتها إلى سدّة القرار في مؤسّساتنا الثقافية وزراء ومديرين.
فخذ مثلاً، إلغاء وزارة الثقافة لواحدٍ من أهم قطّاعاتها وهي شركة التوزيع الوطنية التي كانت تتكفّل بتوزيع المطبوعات العراقية داخل وخارج العراق، هي بحكم الواقع غير موجودة الآن. وبلا بديل.
وعلى الرغم من فعل الطباعة والنشر في المؤسّسات والاتحادات العراقية واستمرار إنتاجه بغضِّ النظر عن الحجم والنوع وجودة المطبوع، لا قدرة لمؤسّسة أهلية أو حكومية في أن تأخذ على عاتقها مهمة تسويق الكتاب ونشره والترويج إليه باحترافية أسوة بما يحصل في دول مجاورة..
ثمة حاجة ضرورية اليوم لتتبنّى الدولة تأسيس مجلس أعلى للثقافة للارتقاء بالواقع الثقافي وإيصال صوته إلى أقصى المديات عربياً وعالمياً، ومثل هذا الإجراء كفيل بأن يعيد للثقافة أفقها الحقيقي وسمعتها التي كانت في يوم ما أكثر إشراقاً وتوهجاً..
فساد مستشرٍ
وبحسب الفنان التشكيلي صدام الجميلي، فإنَّ السبب الرئيس في عدم تصدير الثقافة العراقية في وقت يتاح لدول العالم كلّها أن تقدّم مبدعيها للعالم يرجع للفساد السياسي في العراق الذي ينعكس على الفساد الثقافي والإداري. وذلك لكون المؤسّسة الثقافية العراقية تعاني من مشكلة الجهل الإداري والمؤسّساتي، إذ تعجز المؤسّسات الثقافية العراقية عن إنتاج ثقافة رصينة واحترافية معاصرة في الداخل، فما بالنا في تصدير تلك الثقافة، فلا يمكن تصدير منتج لا يتوفّر على أبسط مقومات الإنتاج الاحترافي المعاصر من إبداع وطباعة وتسويق وعلاقات مرموقة.. وذلك لكون الثقافة العراقية تهرول خارج السياقات العالمية. وبالتالي لا يمتلك الإداري أيّة مقومات لمعرفة آليات إنتاج الثقافة المعاصرة وأشكالها الجديدة في العالم. ومن ثمَّ لن تتوفر للثقافة العراقية أن تجد فرصة في المحافل الثقافية، إلَّا إذا كان الموضوع فردياً يعتمد على خبرة المبدع نفسه. وهذا ليس سهلاً لمن هم في الداخل. فما تزال الثقافة العراقية عاجزة عن إنتاج مهرجان مثل مربد السبعينات وبينالي بغداد للفنون، وذلك لتصدّي عديمي المعرفة والمطّلعين على ثقافة العالم اليوم. كما أنَّ عالم المحسوبيات والطائفية يفتك بحصان المؤسّسة التي لا تستطيع جرَّ العربة الثقافية إلى مكانها الصحيح، إذ يهتم المسؤول الثقافي بطائفة المبدع لئلا يتفوّق غيره من الطائفة الأخرى، بل وصل الحد ببعضهم إلى محاولة احتكار وتحويل التاريخ إلى طائفة ما. فإنَّ انشغال المسؤولين في صراعات داخلية يشغلهم عن التفكير في الخارج.
تكتلات فئوية
ويشير الشاعر والكاتب جمال علي الحلاق إلى أن الأمر قد لا يبدو بهذه السهولة، ويقصد إمكانية تشخيص الأسباب التي تقف وراء ذلك، فالتناحر الغبي، سواء ببعده الطائفي، أو المناطقي والعشائري قد قاد إلى خلق تكتّلات فئوية تزداد ضيقاً وانشطاراً مع الوقت، وهذا كلّه يقف عائقاً حقيقياً أمام نشر البعد الثقافي عالمياً، ومع هذا فالسؤال الذي يمكن أن يُطرح الآن: من المؤسّسة الحكومية المسؤولة إداريّاً عن عملية إطلاق وتحرير الثقافة ببعدها الأشمل من حَجْرِها المحلّي إلى الفضاء العالمي؟ وبالتأكيد فإنَّ وزارة الثقافة السياحة والآثار- في الدرجة الأساس- من يقع عليها عبء القيام بهذا الدور الخطر والمهم.
ويضيف: نشر الثقافة عمل وظيفي إداري قبل أن يكون عملاً إبداعيّاً، يبدأ العمل محلّياً، أي أن تتبنّى القنوات الإعلاميّة للدولة تكريس هذا الأمر على صعيد الداخل، عبر إقامة نشاطات ومهرجانات ومعارض دورية، ثمّ ينفتح العمل ويأخذ مديات أكثر سعة بالاعتماد على المكاتب الثقافية الواجب توفّرها ضمن بنية السفارات والقنصليات الحكومية التي تمثّل البلد هنا وهناك على سطح الكوكب. أن يكون هناك نشاط ثقافي دوري بالاشتراك مع المؤسّسات الثقافية المضيّفة أو الحاضنة.
في بعض البلدان الغربية تتبنّى وزارة السياحة عملية طبع دواوين شعراء من البلد لأنّهم يمثّلون جزءاً من الواجهة السياحية للبلد ذاته. عملية التسويق هنا مهمّة جدّاً، وتتطلّب وعياً منفتحاً شاملاً للأطياف الثقافية التي تخلق الضوء كلّها، وليس الانحياز لجهة دون أخرى.
صدمة الانفتاح
ويبين الدكتور علي ياسين أن للحصار قبل 2003 دوره الفاعل في حجب العراق عن فاعليته كبلد مؤثّر، وتحويله إلى ما يشبه كأس الزبادي المنعزل عن عالمه الخارجي، ولاسيّما في المجال الثقافي الذي عملت سنوات الحصار على تكريسه لخدمة رؤية شمولية تمجّد حاكماً مستبدّاً، الأمر الذي أضعف دور المؤسّسات العلمية والتربوية والثقافية والنقابية لتنهض بمسؤوليتها في ترصين الوعي وتحديثه، فظلَّ الأدباء يتوقون للحظة تواصل مع العالم العربي والإنساني بدون أن يمتلكوا التأهيل الكامل لشرعية هذا التواصل الذي ازدهر فيه إنتاج طرف على حساب طرف آخر، وبالتالي وجد أدباء العراق أنفسهم بعد 2003 يدورون في دائرة مفرغة ويتعاطون هموماً لم تنهض معالجاتها لتجاوز المحلّي إلى الإنساني بسبب محدودية الرؤية عند الغالبية وضيق الأفق، إذا ما قورنت هذه المعالجات بإبداعات الستينيين وسنوات النهوض في هذا العقد والعقد الذي تلاه... باختصار كانت صدمة الانفتاح بعد 2003 أكبر من أن تتصدّى لها متاريس الأدباء الهشة والرخوة.
مدّعو الثقافة
ويختتم الروائي سعد سعيد حديثنا بقوله إنَّ هذا يفضح خللاً كامناً في ما يدعى بالثقافة العراقية، سواء أكان في الفهم أو في التعريف، فلطالما ادعى العراقيون تميّز البعض منهم، وفي معظم الأحيان لسبب مصلحي أو انفعالي، ولكنَّ هؤلاء لم يتركوا الأثر المطلوب في الثقافة العربية أو العالمية، وهذا يؤشّر الخلل، ولكنَّ أنصارهم يميلون إلى ادعاء المؤامرة، ولم أفهم يوماً أين المؤامرة والدلائل كلّها تشير إلى أنَّ المجتمعات المحيطة بنا كانت تميل إلى استقبال العراقيين بلا عقد وأحقاد. ما عدا حالات نادرة لها مسوّغاتها طبعاً.
ويضيف: أنا لا أقول بأنه لا وجود لثقافة عراقية، بل إنَّ أرض العراق حضارية ولا يمكن أن تخلو يوماً من مثقف أو فنان أو عالم، ولذلك أزعم بأنَّ المشكلة تكمن في الجهل الغالب على المجتمع الذي أنتج حكومات تميل إلى التسلّط وخنق الحرّيات، والمثقف كما هو معروف لا يستسيغ أن يكون أداة السلطة، فتضطر هذه إلى تقريب أنصاف المثقفين ليحلّوا محلّه، وتصنعهم بنفسها كواجهة حضارية لنفسها كما تقتضي مصالحها.
الموضوع طبعا أكبر بكثير من أن نحصره ببضعة كلمات، ولذلك أكتفي بالقول، ابعدوا المدعين عن الثقافة، وتقبلوا المثقفين الحقيقيين كما هم من دون محاولة التأثير فيهم وتغيير آرائهم، يصبح للثقافة العراقية شأن في الخارج.