فيلم (close) تجربة مؤثرة في طريق النضج

ثقافة 2024/07/24
...

وداد سلوم

حصل فيلم (close) للمخرج البلجيكي لوكاس دونت على جائزة أفضل فيلم في مهرجان كان عام (2022) ورغم أنَّ هذا كان قبل عام من تصدّر فيلم الوحش للمخرج الياباني هيروكازو كورنيدا والذي نال سعفة كان الذهبية (2023) فإنَّ المشاهد المتابع سيجد أنهما يطرحان قضيتين متشابهتين في مجتمعين مختلفين. أي عالم الطفولة والتغيرات التي تطرأ عليها بتأثير اقتحام مفاهيم الكبار والأحكام المسبقة والجاهزة التي يتم إطلاقها وتداولها وتلقينها للأولاد دون إحاطة بآثارها في عالم الطفولة وانتهاكها براءته ولا النظر للأثمان التي يدفعونها دون ذنب. فحتى المجتمعات المتحضرة تعيش تناقضاتها وارتباكها تجاه المفاهيم الجديدة وما يستجد من بنى اجتماعية تفرضها، فما تأثير ذلك في عالم الأطفال البريء؟ وكيف ينعكس عليهم التغير العاصف لدينا دون أن يؤذيهم؟.
 يبدأ الفيلم بمشهد لطفلين (ليو وريمي) يركضان في حقل من الورد بعفوية، تلفح وجهيهما نسمات الربيع وألوان الورود توحي بذلك الجمال المتفتح في الطبيعة وفي روحيهما كربيع حقيقي داخلي وخارجي.
تربط بين الطفلين صداقة قوية جداً، فيتشاركان الخيال واللعب والنزهات والمدرسة والطعام حتى أنهما ينامان في سرير واحد أغلب الأوقات وحين يصيب ريمي الأرق يقوم ليو بسرد حكاية له. يلاحظ أصدقاء المدرسة قربهما الشديد حتى أنَّ بعض الفتيات يسألنهما إن كان ما يربطهما هو علاقة عاطفية، ينفي ذلك ليو وريمي ويفاجئهما أن يوسما بالمثلية لمجرد صداقتهما البريئة والمكشوفة. يتلقى ليو الصدمة ويتأثر بها كثيراً ويشعر بأنه متهم فيبدأ بتغيير سلوكه محاولاً نفض الصفة عنه بأي شكل دون أن يشرح لريمي شيئاً، ولعلّ ذلك بتأثير من بيئة كل منهما، فبينما ليو ابن مزارع يعمل بالأرض وما ينعكس من ذلك على طريقة التفكير التقليدية، فإنَّ ريمي طفل رومانسي يهتم بالموسيقى ويعزف على الفلوت ووالداه يعملان في المدينة القريبة ولا شك أنَّ هذا أيضًا ينعكس على طريقة تربيته ومفاهيمه أيضًا.
ولهذا فإنَّ كل تغير في سلوك ليو يسبّب صدمة لريمي تجعل عالمه يهتز ويشعر بفقدان الاتزان ورغم أنه يواجه ليو في معاتبة تصل لحدود اللكم بينهما، إلا أنَّ ناره الداخلية لا تنطفئ؛ نار الإحساس بالتخلي والترك وفقدان الصديق الوحيد الذي يشاركه عالمه كله. بينما نرى أنَّ ليو يمضي في قراره الحاسم دون توضيح، حتى حين يتخلف ريمي عن الرحلة المدرسية إلى البحر يفتقده ليو دون أن يعبر عن ذلك فقراره بالتغيير جعله يتعلم التكتم على أفكاره ومشاعره، وحين يعودون من الرحلة يكون أهالي الطلاب بانتظارهم وكأنَّ مصيبة قد وقعت. ويشعر بها ليو بقوة حتى أنه لا يستطيع النزول من الباص فتصعد والدته وتخبره أنَّ ريمي قد غادر هذا العالم.
 رغم الصدمة الكبيرة ورغم الشرخ الذي تركه غياب ريمي نجد ليو يحاول التماسك وإظهار للآخرين أنَّ غياب ريمي لا يؤثر فيه ربما إمعاناً في رد التهمة السابقة ولكن في داخله لا يتوقف ذلك الجلد الذاتي والإحساس الذي يسيطر عليه بأنه سبب موت ريمي إضافة إلى الشوق الشديد لرفيقه، وعدم استيعاب غيابه الأبدي. فكيف لطفل في الثالثة عشرة استيعاب معضلة الموت وحده؟ وكيف يمكنه تحمل شعور أنه السبب فيها؟ مهمة صعبة كثيراً، تبدأ بالتأثير به نفسيًا وجسديًا حتى أنه يتبول ليلًا في فراشه ويبدأ باللجوء لأخيه الأكبر ليستطيع النوم. أما في المدرسة التي أقامت جلسات استماع للطلاب لتدارك تأثير موت زميلهم ريمي منتحراً فيهم ومحاولة استيعاب ردود أفعالهم، يخوض ليو الجلسات بالصمت وحسب، ثم يبدأ بالتهكم على زملائه، وما يكتبونه عن ريمي، وينتهي إلى ترك الجلسات التي يشعر أنها لا تستطيع تقديم شيء له.
ويبدأ بالعمل في حصاد الورد ومساعدة أهله بالعمل في الحقول بشكل مرهق ودون توقف كأنه يريد إنهاك واستنفاد طاقته وقدراته لينسى الواقع ولا يستطيع. وفي رياضة الهوكي التي كان قد بدأ بتعلمها نجده يتعمد السقوط في محاولة إلحاق الأذى الجسدي بنفسه وقد يكون انتقامًا من بقائه حيًا بعد ريمي أو بعد أن أرسل ريمي للموت وهو الشعور الذي يبلغ الذروة حين يبالغ في تعمد السقوط أثناء التدريب فيتسبب بكسر يده وبينما كان الطبيب يقوم بتجبيرها ينخرط ليو في بكاء شديد لا يتناسب مع ألمه كأنه يبكي ألمًا اختزنه لأيام طويلة.
تستمر حالة الصراع هذه مدة طويلة محاولًا العثور على إشارة تركها ريمي وراءه فيزور والدته وينظر في غرفته متذكرًا تلك الأيام وتلك السعادة الماضية. إلى أن يقوم بزيارة والدة ريمي نهاية العام الدراسي في مكان عملها وفي طريق العودة معها يعترف لها أنَّ تخليه عن ريمي كان السبب في انتحاره. تطرده الأم من السيارة لكنها تعود وتتمالك نفسها وتبحث عنه وتعيده للبيت. وحين يعود لزيارتها في المنزل، يجد أنهم قد رحلوا إلى غير رجعة حاملين معهم كل الذكريات وكأنهم قد أغلقوا عليه الماضي، أو أنَّ هذه العلاقة قد أغلقت للأبد بالموت أولًا وبالرحيل ثانيًا وهو المعنى الثاني الذي يمكن أن يصلنا من العنوان.
لم يكن ليو مجرماً ولم يدرك حجم تأثر ريمي بتغيير سلوكه تجاهه، فقد استفزه الحكم المسبق الذي أطلقته الفتيات عليهما. تلك المفاهيم الجاهزة التي تتسرب على شكل تهمة وتحكم على الآخرين دون رادع، خاصة أنها ما زالت تتراوح بين القبول والرفض، وخاصة في بعض الأوساط كالريف، وقد تتسرب بشكل عفوي إلى التعامل اليومي وتسبب ما لا يتوقعه أحد.
كانت أسرتا ريمي وليو متفهمتين لعلاقة الطفلين لكنهما لم تكونا على مستوى المتابعة لمعرفة التطورات التي يعيشها الطفلان ولا ما يعترضهما في المدرسة أو التغيرات بينهما ومحاولة رأب الصدع في العلاقة. وبينما كانت والدة ريمي تحذر من إقفال باب الحمام بالمفتاح لأنَّ ذلك ممنوع بلا نقاش، لم تكن بقرب ريمي لرصد أي إزعاج يتعرض له ومحاولة انتشاله من أزمته. كما أنَّ عائلة ليو التي لاحظت بعض التغيرات في سلوك ليو تجاه صديقه عبر الأم وتساؤلاتها، أخذها العمل عن متابعة نمو ولدها ليو ومشاعره وأفكاره في مرحلة حساسة (المراهقة) ومسيرته نحو النضج. ألم يكن حريًا بعالم الكبار أن يولي هؤلاء الصغار بعض اهتمام ورعاية أكثر.
 أظهر التصوير الفروقات بشكل حاد قبل الحدث المؤثر وبعده، ففي البداية في غرفة نوم ريمي وهما معاً هناك الضوء والألوان المشرقة والبهجة المشعة من تعابير الوجوه بينما غرفة نوم ليو في ما بعد معتمة وبألوان حزينة وغير مريحة، كما أظهر الحزن المقيم في تعابير الوجوه فتشعر أنَّ ليو قد كبر وظهر التعب على وجهه الذي كان مشرقاً، وكذلك والدة ريمي ووجهها المتعب والحزين، قام بدور ريمي الطفل غوستاف دي وايلي، وأبدع ايدن دامبرين في دور ليو حتى في لحظات صمته كان يؤدي بشكل مؤثر وقد فاز بجائزة أفضل ممثل واعد، الفيلم مؤثر بشكل كبير ويستحوذ على المشاهد وقد حصد سبع جوائز منها جائزة أماندا كأفضل فيلم نرويجي وجائزة أكاديمية الأفلام الأوروبية وجائزة أفضل سيناريو وأفضل تصوير وأفضل ديكور وجائزتان لأفضل دور ثانوي في مهرجان كان.