مصائر مكتباتنا
د. عبد الجبار الرفاعي
يؤلمني المصير الذي ستؤول إليه كتبي، لي مع كل كتاب ذكرى، بل الكتب بمجموعها تفيض بذكرياتي، بوصفها سجلًا للأزمنة والأمكنة والمحطات الفكرية لحياتي. نحن اليوم في العصر الرقمي إذ يتوغل الذكاءُ الاصطناعي في كل شيء، ويتدفق سيل المعلومات والمعارف، إلى درجة لا يتمكن معه أي إنسان من ملاحقة إلا أقل القليل فيها. العصر الرقمي العاصف الذي نعيش في صيرورته، كأنه مرجل معبأ بالتيزاب يصهر كل صلابة في العلاقات والهويات والقيم والمعتقدات والثقافات والآداب والفنون والعلوم والمعارف والتكنولوجيا.
أظن أن مفهوم الكتب والكتابة والمكتبة والقراءة على أعتاب تحول تطاله العاصفة الشاملة لتكنولوجيا الواقع الرقمي. بمرارة قررت ترحيل بعض الكتب بالتدريج إلى دار الكتب الوطنية ببغداد، ومكتبة أخرى في النجف. الصلة العاطفية المتراكمة عبر سنين طويلة بكل كتاب بوصفه سجلا ناطقًا بذاكرتي، تدعوني للتشبث بالكتب، انتزاعها من بيتي كأنه انتزاع شيء من روحي، أمتنعت من نقل الكتب مرة واحدة للمأوَيين الجديدَين، لئلا يفجعني طمس الذكريات المضيئة لها، وبدأت منذ أشهر بترحيل ما أراه فائضًا، ولا تربطني فيه وشيجة عاطفية عميقة.
مكتبتي انتخبت كلَّ كتاب فيها بعناية فائقة، لا أعتمد غالبًا على الشائعات الإعلامية حول الكتب، أحاول أن أتعرّف على الكتاب بنفسي،كي أسمح أن تستضيفه مكتبتي. أخطأت باختيار بعض الكتب، فلبثتْ مقيمة مدة على رفوف المكتبة، وإن كنت أحرص على النظر في الكتب أكثر من مرة بعد حضورها في المكتبة، لأستبعد ما أكتشف خطأي بشرائه وضمه للمكتبة. لحظة أتأمل في صفحاته ولا أراه إلا مجرد تكديس ألفاظ على ألفاظ لا أطيق بقاءه على رفوف المكتبة. منذ سنة 2010 إلى اليوم، استبعدت أكثر من 5000 كتاب ومجلة، ومازلت كلما صادفت أحد الكتب الذي أخطأت باستضافته على رفوف المكتبة أستبعده فورًا.
شغفي هو الكتاب، حيثما رأيت كتابًا أنظر لعنوانه، لو التقيت إنسانًا أعرفه أو لا أعرفه بيده كتاب أنظر للكتاب مباشرة وبسرعة بعد النظر لوجهه، أتلصص على عنوانه بعيون خجولة، وربما خرجت عن بروتوكولات التعامل فسألته عن الكتاب ومؤلفه قبل أن نبدأ الحديث. الطريف أن بعض الناس يقع الكتاب بيده هدية وهو لا صلة له بأي كتاب، لا يغويه حتى النظر لعنوانه. لحظة أسأله يعلن أنه لا يعرف شيئًا عنه، فيبادر فورًا لإهدائي الكتاب أحيانًا، وكأنه يطلب مني عدم الانشغال بمثل هذا الأمر الذي لا يستحق أن نستهلك الوقت بالحديث حوله برأيه. لم أخطط يومًا في حياتي لإنشاء مكتبة، غير أن هذا الولع بالكتاب يوقعني بمصيدة الكتب، ما وصلت لمدينة إلا وسعيت لزيارة مكتبات البيع فيها قبل كل شيء، لا أزور إلا المتاحف والمكتبات في البلدان. أزور القاهرة مثلًا فأذهب للهيئة المصرية للكتاب، وقصور الثقافة، والمركز القومي للترجمة، ودار المعارف، وغيرها.كنت مدعوًا لمعرض القاهرة للكتاب سنة 2024، لم أحمل في حقيبتي سوى 40 كغم كتبًا إلى بغداد. كنت ومازلت زائرًا مدمنًا لمكتبات شارع المتنبي ببغداد، منذ سنة 1973 حتى اليوم. لا أذهب أيام الجمعة في السنوات الأخيرة لاكتظاظ الشارع بزائريه من القراء والمهتمين بالكتاب والنزهة.كلُّ مرة أقرّر ألا أشتري كتابًا عندما أذهب للمتنبي أو لمعرض الكتاب ببغداد، الذي أحرص على الحضور فيه مساء أيام انعقاده، ينهار القرار فجأة لحظة أرى كتابًا يغويني، أعود للبيت بمجموعة من الكتب، لا تجد هذه الكتب مأوى لها على رفوف مكتبتي، ولا فوق أكداس الكتب المتناثرة على طاولة الطعام وطاولات الغرف، فتتحير زوجتي بتدبير مأوى لها، هي تظن الكتب ستطردنا الكتب من البيت رغمًا عنا، وأنا لا أطيق العيش في بيت لا يختنق بالكتب. أقول لها: لا أحتاج إلا كرسي الجلوس للكتابة وسرير النوم، مشهد الكتب وهي مكدّسة يسليني ويؤنسني. هي تتطلع لتنسيق ديكور الغرف بأثاث حديث مماثل لما تراه في بيوت الناس، والغرف معبأة بالكتب. الكتب الجديدة لا يتسع وقتي إلا لقراءة مقدّماتها ومحتوياتها وتصفحها، وأُمّني نفسي بمطالعتها لاحقًا، ولا أظن عمري يتسع لمطالعتها وغيرها من الكتب المصطفة في الدور مما أتشوق لمطالعته. هكذا تتكون مكتباتي. مكتباتي تعدّدت بتعدّد المدن التي عشت فيها، في بيت العائلة أنشأت نواة مكتبة، وأنا في الشطرة وبغداد، وفي حوزة النجف تولد مكتبات، تتسع تبعا لقدرتي على شراء الكتب وتقديمها أحيانًا حتى على الحاجات الضرورية للعائلة ولي. في الكويت تشكلت مكتبة جديدة، كان مصيرها الإحراق، في حوزة قم ولدت مكتبة تضم آلاف الكتب، كان مصيرها البيع بأكملها، لتأمين المبلغ اللازم لإصدار مجلة قضايا إسلامية معاصرة، فأسست مكتبة لاحقة تتسع لآلاف الكتب. في بيروت هناك مكتبة مودعة في شقة ابني د. محمدحسين الرفاعي، وفي بغداد ملأت الكتب غرف البيت بأسرها.
من المكتبات الشخصية الثمينة مكتبة د. رضوان السيد، كنت أزوره في بيته ببيروت، في زياراتي المتواصلة لهذه المدينة العشرين سنة الماضية.كان رضوان ومازال من أكثر الأصدقاء العرب دراية بالكتب والكتّاب باللغات العربية والألمانية والإنجليزية، ظل يلاحق كلَّ جديد، ويشتري أكثر من نسخة من الكتاب غالبًا، فضلا عن الهدايا التي تصله من دور النشر والمؤلفين والدوريات في لبنان والبلدان المختلفة. رأيته من أكرم الناس بالكتب، في كل زيارة يهديني ويهدي أصدقائه مجموعة من الكتب والدوريات الممتازة. بيته يضيق على الرغم من سعته بما يضيفه من كتب بلغات يتقنها، قبل أكثر من عشر سنوات أخبرني بأنه اشترى مكانًا ببناية في بيروت ليأوي مكتبته. عرض عليّ في أحد زياراتي مشاهدة مكتبته في محلها الجديد، بهرتني المكتبة بتميزها وفرادة ما استوعبته من مؤلفات نوعية، مكتبة نادرة انتقاها عالم وباحث متمرّس في التراث الإسلامي والعلوم الإنسانية، وهو يواصل شغفه بتزويدها بما يستجدّ. بلغ رصيدها من الكتب والدوريات 120000 كتابًا ودورية، كما أخبرني رضوان في اللقاء الأخير بمسقط في المؤتمر الفلسفي لبيت الزبير الثقافي بمسقط شهر أبريل 2024. حكى لي المصير المؤلم لمكتبته الفريدة، بعد ما حدث لبيروت في السنوات الأخيرة من تآكل بنى الدولة المدنية، وانهيار الاقتصاد والنظام المصرفي، واضطراره للهجرة والإقامة في أبوظبي. يقول رضوان: تعرضت المكتبة إلى تسرب شيء من مياه الأمطار إثر تشققات في السطح، فتضررت بعض الكتب، حاولت إنقاذها بترميم سطح البناية، لكن غيابي وإهمال المكتبة، جعلها ضحية تسرب مياه مرة أخرى، فقررت إهدائها إلى مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت وعرضتها عليهم، غير أنهم اعتذروا عن تسلمها على الرغم من نفائسها، لعدم توفر الفضاء الكافي في مخازن الكتب لاستيعاب مكتبة بهذه الضخامة. عرضتها على مكتبة جمعية المقاصد الإسلامية ببيروت فاعتذروا للسبب ذاته. وأخيرًا عرضتها على مكتبة جامعة القديس يوسف "اليسوعية" ببيروت فاعتذروا كذلك. كلهم قالوا: لا يتوفر المكان الذي يتسع لاستيعاب هذه الكمية من الكتب، فضلا عن تراجع استعمال الكتاب الورقي، ما دعاني لعرضها أخيرًا على مكتبة إحدى الجامعات في أبوظبي. هذه المكتبة من أندر المكتبات في نوعية كتبها المنتقاة بخبرة عارف بالكتب والمؤلفين، ولمعرفتي بالتكوين الأكاديمي الرصين لرضوان، وولعه بالقراءة والكتب والكتابة، ومواكبتي السنوات العشرين الأخيرة لنمو هذه المكتبة وتطور رصيدها، وحرصه الدائم على إثرائها. المصير الذي آلت إليه هذه المكتبة، دعاني للتفكير طويلًا بمصير مكتبتي، وهي تعادل ربع مكتبة رضوان.