السفر والمعرفة

آراء 2024/07/24
...

جواد علي كسار

اعترف أن المرّة الأخيرة الجادّة التي عدتُ بها إلى موسوعة «قصة الحضارة» حصلت قبل نحو عقد ونصف من الآن، عندما دفعني لمراجعتها هاجس البحث عن أسباب التقدّم السريع للدانمارك والسويد، وكيف قطعت بلدان شمال أوربا إجمالاً طريقها إلى الاستقرار وقمة الرفاه المعيشي، بأقلّ من مئة سنة فقط، صعدت فيها من الغجرية واللصوصية إلى ما هي عليه الآن من رقي في النظم والقانون.
ضخامة الموسوعة وامتدادها على (21) مجلداً كبيراً أعطاها موقعاً قصياً في الجغرافية المكانية لمكتبتي الشخصية، وضعها في أعلى درجات المكتبة بعيدة عن متناول اليد، لا أصل إليها إلا باستعمال سلّم خاص. وهذا سبب آخر لعدم رجوعي إليها.
لكن «مسألة» ترتبط بأصل الحضارة الإنسانية الأولى وصراع البلدان بشأن هذه البداية لاسيّما بين العراق ومصر، دفعني لعودة تفصيلية إلى أجزاء متفرقة من الموسوعة دامت أياماً، انتبهتُ خلالها إلى عنصر منهجي مهم في تجربة مؤلفها ول ديورانت، وكيف دخلت الرحلات في مقدّمات التأليف.
لقد بدأ ديورانت (1885ـ 1981م) عمله مراسلاً صحفياً، ثمّ مدرساً للغات وغيرها، قبل أن يقوم عام 1912م بجولة طاف خلالها ببلدان أوربا على نفقة صديق له هو الدن فريمان لكي يساعده: «على توسيع آفاق تفكيره» (الكتاب 22، المقدّمة).
بعد أن نال الدكتوراه في الفلسفة بدأ يُلقي محاضرات عن تأريخ الفلسفة والحضارة تحوّلت إلى نواة لوضع موسوعته عن قصة الحضارة بأسلوب سهل، استعان فيه بتجربته الخاصة عن تعليم الكبار.
لم يشرع بالتأليف قبل جولة أخرى إلى أوربا عام 1927م، ورحلات طويلة إلى مصر والهند والصين واليابان عام 1930م، أعقبها بجولة أخرى عام 1932م أضاف إليها منشوريا وسبيريا وروسيا، أثمرت عن وضع المجلد الأول من الموسوعة.
قبل أن يشرع بالجزء الخاص عن اليونان حلّ طويلاً في البلد، وتعرّف عن كثب على مراكز الحضارة الهيلينية وآثارها. الطريف أن نعرف أنه قضى (6) أشهر من عام 1948م في تركيا والعراق وإيران ومصر، تمهيداً للجزء الخاص بعصر الإيمان.
ثمّ عاد إلى إيطاليا عام 1951م توطئة للجزء الخاص بعصر النهضة، قبل أن يسافر عام 1954م إلى ألمانيا وسويسرا وفرنسا وانجلترا تمهيداً للجزء المختص بالإصلاح الديني، لتكون الحصيلة سنوات من الرحلات المعرفية، كان لها أثرها البليغ في إنجاز مجلدات موسوعته عن قصة الحضارة.
العبرة من هذه التجربة أن المؤلف لم يقتصر في مقدّمات التأليف على الجانب النظري المكتبي وحده، بل وصله بالمعاينة المباشرة وقدر غير قليل من المعايشة، لتكون الأفكار والآراء والنتائج أقرب إلى نبض الواقع وحقائقه على
الأرض.
أما الدرس، ففينا اليوم من يسمح لنفسه أن يتحدّث بصفته خبيراً، عن إيران واليمن ومصر ولبنان والعراق والمغرب وأفريقيا، مع أنه لم تطأ له قدم في تلك البلدان ولم يعرفها أو يشاهدها عن قرب. كما فينا من يتحدّث ببلاغة لفظية عن أمريكا والغرب، وهو ليس فقط لم يزرها بل لا يلمّ بشيءٍ من
لغاتها!.