أ.د عامر حسن فياض
إن قيمة الاعتصام بالأدب واللجوء اليه تتجسد في استخدامه، لأغراض التعبير عن القبول بواقع السياسة وسلطتها أو رفضه.
وفي كتاب «كليلة ودمنة» الذي ترجم إلى العربية بتصرف واضح «عبد الله بن المقنع» أحد أبرز أعلام القرن الهجري الثاني، أي حوالي منتصف القرن الميلادي الثامن نجد الكثير عن السياسة وتأملات العقل بشأنها.
فقد تضمن الكتاب قصصا وحكايات على ألسنة الحيوانات، تنطوي على قيم سياسية وتتضمن حِكما اجتماعية، تتجه معانيها إلى المجتمع البشري وتخاطب العقل الانساني، وتضع الاسس والمبادئ العامة للعلاقة بين الحاكم والمحكومن وتحدد مسؤوليات الحكام وواجباتهم.
إذ يبدأ الكتاب بتوضيح الاسس التي يقوم عليها التمييز بين الإنسان وغيره من المخلوقات فيقول (بيدبا) المؤلف الاصلي للكتاب، مخاطباً الملك (دبشليم) الذي وضع الكتاب من أجله، «أيها الملك اني وجدت الأمور التي يختص بها الانسان من بين سائر الحيوان اربعة، وفيها جماع كل ما في العالم، وهي الحكمة والعفة والعقل والعدل».
ويخاطب الملك حكيمه مبيناً له سبب حاجته إلى هذا الكتاب وغايته الرامية إلى تنظيم علاقات السلطة والحكم بين الناس فيقول «وقد أحببت أن تضع لي كتاباً بليغاً تستفرغ فيه عقلك، يكون ظاهرة سياسة العامة وتأديبها، وأخلاق الملوك وسياستها للرعية، على طاعة الملك وخدمته، فيسقط بذلك عني وعنهم كثير مما يحتاج إليه في معاونة
الملك».
ويوضح الكتاب أسباب فساد السلطة وسياساتها فيقول «وإنما يؤتى السلطان من قبل ستة أشياء، منها الحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخرق. فأما الحرمان فإنه يحرم صالح الأعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة والامانة، ويبعد من هو كذلك منهم. وأما الفتنة فهي تجر الناس إلى وقوع الفتن والحرب بينهم. وأما الهوى فالإغرام بالنساء والحديث بالشراب أو الصيد وما أشبه بذلك. وأما الفظاظة فإفراط الحدة حتى يجمع اللسان بالشتم واليد بالبطش في غير موضعهما. وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من الشر والموت، ونقص الثمرات وأشباه ذلك. وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة».
وفي موقع آخر يشرح الكتاب، آليات السلطة لتدبير السياسة وشؤون الحكم مبيناً « أن المُلك لا يُستطاع إلا بالوزراء والاعوان ولا يُنتفع بالوزراء والاعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا تَصلُح النصيحة والمودة إلا مع إصابة الرأي والعفاف الكثير».
ثم يبين القواعد التي يتم بموجبها إشراك الآخرين في تحمل أعباء السلطة ومسؤولياتها، مؤكدا «إن الملوك إذا أوكَلوا إلى غيرهم ما ينبغي مباشرته من امورهم وألزموا انفسهم مباشرة ما ينبغي لهم تفويضه إلى الاكفاء، ضاعت أمورهم ودعوا الفساد إلى انفسهم. إن الملوك يحتاجون إلى النظر في وجوه شتى من الامور، فإذا آثروا بعض تلك الوجوه على بعض لم يأمنوا خطأ البصر وزلل الرأي».
هذه النصوص، وأخرى كثيرة غيرها يحفل بها الكتاب، تبين اسلوب الصياغة الادبية الفنية، للمبادىء العامة التي يفترض أن يستند إليها الحاكم الصالح، والسياسات العملية، التي من أولى قواعدها عدم احتكار الحاكم لشؤون السلطة وانفراده بها، لأن ذلك يتعارض مع طبيعة السلطة ووظائفها الكلية الشاملة، ويؤدي إلى الطغيان ومن ثم فساد الحكم
والحكام.
وعدم جواز الاعتماد على الرأي دون ان يكون قائماً على الخبرة والمعرفة بشؤون السلطة وإدارة
الحكم.
وحكايات الكتاب المتنوعة والمختلفة في موضوعاتها ومقاصدها الإرشادية السياسية، موضوعة على لسان ثعلبين (كلية ودمنة) يحكيانها للأسد (ملك الغابة)، والحكايات مقسمة إلى خمسة عشر بابا لكل باب حكاية ومغزى إرشادي وتعليمي.
فحكاية (الأسد والثور) مغزاها الحذر من الوشاة وعدم التسرع في تصديقهم أو الحكم بأقوالهم. وحكاية الحمامة المطوقة مغزاها أن عاقبة الظلم وخيمة وأن في اتحاد المظلومين قوة تطيح بالظالمين مهما كانت قوتهم.
والمغزى الإرشادي ليس بخاف عن ابن المقنع فهو مدرك له عارف به حريص على تنبيه القارئ إليه، حيث يطلب منه ألا يعتقد «أن نتيجته هي الإخبار عن حيلة بمهمتين أو محاورة سبع لثور.. لأن لهذا الكتاب غرضاً أقصى مخصوصا بالفيلسوف
خاصة».
ثم تأتي خاتمة الكتاب لتحدد غاية الحكم الصالح ووسائل تحقيقها، وتوضح الاسس التي تقوم عليها علاقة الحكام بالمحكومين، جاعلة أهم تلك الاسس، سعي الحكام لخير الرعية دون تمييز بينهم لقرابة أو ثروة أو قوة، وضرورة المساواة بينهم في المعاملة وإشراكهم في تدبير أمور الحكم، والاخذ بمبدأ العدالة في الثواب والعقاب.