الدين.. حياةٌ في أُفق المعنى
د. رنـا إبراهيم البهوتي*
يأتي الدكتور عبد الجبار الرفاعي بعد أن كان الأمر الأول في بيان مغالطات الأنسنة المغالية، ذاكراً أمراً آخر لتصحيح المسار ودحض الخلاف، وهو القول بـ "أنسنة إيمانيَّة"، ترفض أنسنة محمد أركون وحسن حنفي التي ترى الإنسان مركزاً للوجود، وطمست الجانب الديني والغيبي. كما يقول الرفاعي: "في ضوء مفهومي المتقدم لكل من الإنسان والدين، فما أعنيه بأنسنة الدين، ليس هو ما يذهب إليه بعض المفكرين، من أن الدين ينبغي أن يدرس بوصفه ظاهرة بشريّة نابعة عن طبيعة البشر، ولا يصح تفسيرها وتطورها خارج عوالم البشر الحسيَّة".
يتحدث الرفاعي في سياق مشروعه في "الإنسانيَّة الإيمانيَّة" عن: مركزيَّة الله في الوجود ومركزيَّة الإنسان في الأرض غير الخارجة عن مركزيَّة الله في الوجود. الرؤيةُ للعالَم في الإنسانيَّة الإيمانيَّة تبتني على مركزيَّة الله في الوجود، ومركزيَّةِ الإنسان في الأرض. مركزيَّةُ الإنسان في إطار مركزيَّة الله. كما سنشير إلى ذلك في الحديث عن الاستخلاف الذي اختصَّ اللهُ به الإنسان من دون سواه من المخلوقات، بما يمتلك من عقل وإرادة وحرية وإمكانات وقدرات متنوعة تؤهله لهذه المهمة الاستثنائيَّة.
وهذا يعني أنَّ الرفاعي يرفض رفضاً قاطعاً أنسنة محمد أركون وحسن حنفي التي تذهب إلى مركزية الإنسان في الوجود، ويقيم بدلاً منها "أنسنة إيمانيّة" لا تجعل الدين ظاهرة بشريّة بحتة، ولا يقصيه عن حياة الناس وواقعهم وطبيعتهم، وإن كانت تعبيراته تظهر في سلوك الإنسان وحياته.
يضع الرفاعي يده على أساس المشكلة، وربما يكون بسببها عدم فهم دور الدين في الحياة فهما صحيحا، وإهمال أثره الفاعل في النفوس. يقول الرفاعي: "فهم الدين وكيفية قراءة نصوصه من أهم العوامل الفاعلة في تحول السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات في حياة المجتمعات، الدين هو الحبل السري الذي يتغذى منه تكوين الفرد وتقاليد المجتمع وأعرافه، وقيمه وهويته، لكن لم يهتم أكثر من يكتبون عن الدين في بلادنا بالأثر المهم لاختلاف طرق فهم الدين، وكيفية قراءة نصوصه في تكوين الفرد والمجتمع، ولم يسلطوا الضوء على تجذره في اللاشعور الجمعي وترسيخه، وأثره في تشكيل شخصية الفرد في طفولته وتوجيه سلوكه وبناء مواقفه في مختلف مراحل حياته".
الرفاعي يقرّر أنَّ الدين له أهمية شديدة جداً في حياتنا، وله اليد الطولى في التغيير والتطور، لكن تعدد الطرق التي بها يُفهم الدين لها أثر كبير في إحداث تغيرات في المجتمع، وعلى الرغم من ذلك لم يهتم أكثر من يكتبون عن الدين بهذا التأثير الكبير، وأثره في تشكيل شخصية الفرد. وعلى هذه الأساس يضع تعريفه الجديد للدين، الذي ورد نصّه في مختلف أعماله، بقوله: "الدين حياة في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجوديّة لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفرديّة والمجتمعيّة".
يشير الرفاعي إلى الدور الروحي والأخلاقي والجمالي للدين، وإلى حضوره في حياة الفرد والمجتمع، ولم نقرأ هذا التعريف المستوعب في أي كتاب يسبقه. وفي ضوء هذا التعريف يتأسس فكره الديني، ورؤيته للإنسانيّة الإيمانيّة.
يضع الرفاعي ملامح لأنسنته التي يدعو إليها فيقول: "أنسنة الدين عندي تعني إنسانيّة إيمانيّة، وإيمانيّة إنسانيّة، وهي مختلفة عن الإنسانيّة التي لا تعبأ بالإيمان، والتي يتحدث عنها بعض المفكرين، في الغرب والشرق، وتتمحور فيها الأنسنة حول مركزيّة الإنسان، وتنصيب الإنسان بديلاً لله في كل شيء، حتى تنتهي إلى نسيان الله وتأليه الإنسان"، وهذا يعني أن ملامح الأنسنة عند عبد الجبار الرفاعي تتضح في أنها ترتبط بالإيمان ارتباطا وثيقا، فلا تخرج من عباءته، ولا تعطي للإنسان دوراً خارج الأرض وتجعله محور الوجود، وبديلاً عن الله، كما تفعل الأنسنة الأخرى التي يدعو إليها محمد أركون وحسن حنفي وغيرهما، والتي يرى الرفاعي أنّها ترفع الإنسان لمرتبة الالوهيَّة.
يؤكد الرفاعي على بيان الجانب الأهم في أنسنته، والذي طُمس في تفكير أركون وحنفي في أنسنتهم، وهو الجانب الإلهي، فيشدد على أهميته، فيقول: "أنسنة الدين التي أدعو لها هي نمط حضور للإله الروحي الأخلاقي الجمالي في حياة الإنسان، وبكلمة أخرى أنسنة الدين تنشد ديناً روحانياً، وأخلاقياً، وجمالياً لا يقطع الصلة بالله، ويجعل الدين ظاهرة بشريَّة خالصة، مثلما لا يتجاهل الطبيعة البشريَّة، ويتعاطى مع الإنسان وكأنّه روح مجرد فقط، بل يوظف كل المعطيات المتاحة للتفكير والفهم الصحيح لحقيقة الإنسان".
يشرح الرفاعي من خلال هذا النص ملامح أنسنته في كونها: ارتقاء للجانب الروحي الذي يتصل بالإله في أعلى درجاته، ويصل فيها الإنسان إلى أعلى درجات الاخلاق أيضا، ويقيم من خلالها دينا أكثر كمالا وأخلاقا، ورحانيات، وجمالا، موظفا كل شيء في مكانه الصحيح من أجل الرقي بالإنسان.
ويلفت النظر إلى أمر غاية في الأهمية، وهو أن الإيمان والأنسنة الحقة لا يتعارضان كما يدّعي دعاة الأنسنة المادية البحتة، فيقول: "الإنسانية الإيمانية يتحد فيها مسار الإيمان بمسار حماية كرامة الكائن البشري، واحترام إنسانيته، بل الإيمان إنّما يتحقق ويتكرّس فيها بالغيرة على الإنسان، إنّها أنسنة للإنسان بحمايته من لا إنسانيّة الإنسان وتحرير الإنسان من تعصّب وعدوان، ووحشيّة الإنسان".
في ضوء ذلك ليس هناك تعارض بين الأنسنة الحقة بصفاتها المذكورة عند الرفاعي، والإيمان الصحيح، لأنّها حفظت للإنسان حقوقه كاملة، وعملت على الترقي به، دون طمس الجانب الإلهي من الإنسانية، ومن ثم يضيف: الإنسانية الإيمانية عندي يحيل معناها إلى أن (الله واحد والإنسان واحد)، بمعنى أن الإنسان يكتسب حقوقه الطبيعيّة بوصفه إنساناً لا غير، وعلى هذا الأساس يبتنى مفهوم المواطنة التي ينبثق منها استحقاق كل مواطن لحقوقه المدنيّة والسياسيّة، وفي إطار هذا الفهم تكتسب المساواة قيمتها من كونها مساواة لا غير، وتكتسب الحرية قيمتها من كونها حريّة لا غير، وتكتسب الأخلاق قيمتها من كونها أخلاقا لا غير.
هذا النصُّ يشير فيه الرفاعي إشارة خفية إلى أن الفهم الصحيح للدين، ومن ثمَّ تطبيق أنسنته الإيمانية، ينتج من خلاله ارتباط الدين بالقوانين في الدولة الحديثة القائمة على المواطنة التي يتساوى فيها جميع الموطنين في الحقوق والواجبات، وعدم وجود تعارض بينهما، فإنسانيّة الإنسان التي أثبتتها أنسنة الرفاعي انبثق عنها تحقق مفاهيم المواطنة التي تحدد حقوقه وواجباته الوطنية، والمساواة وعم التمييز بين المواطنين، والحرية، والكرامة، وتحققت فيها كذلك الأخلاق.
ينبغي الإشارة إلى أن عبد الجبار الرفاعي وحسن حنفي قد انطلقا من الدعوة لتجديد علم الكلام، وأن علم الكلام القديم وبعض العلوم الدينيَّة قد طمست طبيعة الإنسان، ومن ثمَّ كانت الحلول الأولى لكلاهما هي بناء علم كلام جديد وأنسنة الدين.
وقد صرّح بذلك الرفاعي، قائلاً: "أنسنة الدين مسعى يهدف إلى إنقاذ المعنى الروحي والأخلاقي، والجمالي للدين، بعد ضياعه في دين سياسي لا يعرف الكثير عن هذا المعنى، ولا يسعى لامتلاكه، ودين فقهي يختزل الدين في مدوّنة أحكام قانونيّة تنسى الكثير من معانيه الروحية والأخلاقية والجمالية، ودين كلامي يتيه فيه الدين في ظلام جداليات لا تنتهي لعلماء الكلام، ومحاجات عقيمة، تميت القلب وتطفئ شعلة الروح"، وهو بهذا يشير إلى أن غرض الأنسنة عنده هو إحياء الحياة الروحيَّة لدى الإنسان والأخلاقية والجمالية، والعمل على تنميتها، بعد ما حاولت إخفاءها العوامل السياسية والفقهية والقانونية وجدالات لا حصر لها.
الرفاعي كان الأكثر اعتدالا وعقلانية، فرفض طمس الجانب الغيبي في الدين، ورفض اقتلاع التراث من جذوره، كما أشار إلى ذلك في نصوص عدة من كتاباته، على خلاف ما فعل محمد أركون وحسن حنفي واللذين ابتدعا أنسنة تطمس الجانب الديني وتضع الإنسان محل الله.
ومن الجدير بالذكر أن الرفاعي له دراسة نقدية موسعة عن كتابات صديقه حسن حنفي في كتابة الجديد: "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث"، احتلت الفصل الثاني، وتقع في نحو 50 صفحة، بعنوان: "حسن حنفي: الأضداد في كأس واحد"، وعنون أحد فقراتها بـ "نسيان الله في تفسير حسن حنفي"، وهذا العنوان بلا شك يبين حقيقة أنسنة حنفي التي استبعدت الله من القرآن واستبدلته بالإنسان، وبيان تماديها في طمس الجانب الإلهي حتى في القرآن.
يؤكد الدكتور مصطفى كيحل شيئاً مما ذهب إليه الرفاعي، ويبين أن هناك أنسنة إسلامية موجودة في تراثنا، وهي ربما التي حفظت للإنسان حقوقه، فيقول: "فالإنسان في الإنسنية الإسلامية وبفضل كينونته المفارقة التي تجعله في علاقة استخلاف مع الله، يتكشف وجهه الإنسي بوصفه سيداً للعالم، ومبدعاً للمعنى، يتبوأ مكانة كبيرة في صناعة التاريخ، وهو بحسب هذه الرؤية، ليس كائنا ذليلا أمام الله، وإنما هو خليفة الله، وكائن عزيز عنده وحامل لأمانته على الأرض، وذلك لا يتحقق إلا بفضل علمه ووعيه وحرية اختياره ومسؤوليته، فمصير الإنسان يجب أن يصنعه الإنسان نفسه، وبتلك الكيفية تتحقق أصالته التامة".
وفي هذا الكلام يريد كيحل بيان أن الإنسان ليس كما حاول بعض المفكرين الادعاء أنه طمست معالمه، وأخفيت أدواره في التراث الإسلامي، بل إنه يؤكد أن الأنسنة متحققة في تراثنا، وإلا فكيف كان الإنسان خليفة الله، ومكرّماً من عنده، وحاملاً للأمانة. ولا شك أن هذا ما حدث للإنسان في نطاق الدين الإسلامي وتحت ظلاله، بغض النظر عن تلك المصطلحات الجديدة، التي كان الاهتمام بالإنسان فيها مجرد تقليد للغرب فقط، وليس لحقيقة موجودة على أرض الواقع. ذلك وغيره ما أنجزه عبد الجبار الرفاعي في أنسنته الإيمانية بتفصيل وشروح لا نجدها في كتابات أخرى، حيث بيَّن أن الإنسان مكرّماً، لكن ليس بوصفه مركز الوجود، لكن بوصفه مستخلفاً من الله تعالى ينوب عنه في الأرض، بمعنى انه يعتمد على عقله وتجاربه لا غير في بناء الدولة ونظامها السياسي والاقتصادي والمالي والإداري وكل نظمها الإدارة والحياتيّة.
(مدرس العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر)