أحمد عبد الحسين
ليس لي موقفٌ دينيٌّ من أي حدث. فلست مُبَشِّراً ولا حارساً لعقيدة. بل اعتقادي الذي قد يؤاخذني عليه البعض أنَّ من حق الناس أنْ يؤمنوا أو يكفروا كيفما بدا لهم. فالأمر عقليٌّ قلبيٌّ ضميريٌّ ولا سلطان لأحدٍ على وجدانِ أحد.
عقيدتي في الله أمرٌ شديدُ الخصوصيَّة وهي نتاجُ بحثٍ مضنٍ طوال عمري، درستُ خلالها في مدارس دينيَّة وقرأتُ كثيراً وتأملتُ مع نفسي أكثر. فأنا لم أنشغل بشيءٍ قدر انشغالي بالله “وبالشعر طبعاً”. ولهذا أقرأ بسعادة كبرى ما كتبه بعض أكابر المعترضين على الدين والإله من الملحدين أو اللادينيين، كما أقدّر نصوصَ المؤمنين العميقة، لأنَّي أعرفُ الشدائد النفسيَّة والنوازل العقليَّة والوجدانيَّة التي تهدمُ حول الإنسان وقوته في هذا السبيل الشاقّ.
كلُّ من لم يرد أنْ يأخذ دينه أو إلحاده من أبيه وأمه أو من مجتمعه فأمامه تعبُ السنين وإرهاقُ الضمير وانشغالُ البال. ومن أراد أنْ يؤمنَ كالناس أو أنْ يلحدَ كالناس فطريقه سهلة بسيطة هينة. يكفي أنْ يزعقَ مع المؤمنين أو يكفرَ بالله مع الملحدين، وانتهينا.
لكنَّ الأمرَ عندي جادٌّ جداً “أتذكر جملة رامبو: اللاهوتُ جادّ” ولهذا لم أترك نفسي نهباً للشائعات وللأفكار التي تأتي عفو الخاطر كما يفعلُ كثيرون بمؤمنيهم وملحديهم. وأظنّ أنَّ كثيرين مثلي كابدوا مكابدة كبيرة ليقولوا كلمة عن الإيمان نابعة منهم لا ممَّا هو خارجهم.
لهذا كلّه فأنا أحزنُ كثيراً حين يتمُّ تتفيه المقدَّس. تتفيهه وتسخيفه ببهلوانياتٍ وأفعالٍ وعباراتٍ برقيَّة ليس وراءها إلا الاشتغال على المفارقة التي تولدها ثنائيَّة “مقدس ـ مدنس”. فكلُّ اشتغالٍ على المفارقة مزعجٌ ويكشفُ عن خواء روح وفقر خيال، سواء أتى في لوحةٍ أو في قصيدة أو مقالٍ فلسفيّ.
مقاربة المقدس عقلاً إلى حدّ إنكاره ممكنة ومتاحة وتخلقُ مادَّة للتأمل كما عندَّ كانت “الدين في حدود مجرد العقل”. ومقارعة فكرة الإله في طوايا النفس والتاريخ تجترحُ نصوصاً عظيمة “كما عند نيتشه الذي أمات الإله”. وحصر الوجود بالكائن دون المتعالي تفتحُ أفقاً للتفكير كما عندَّ هيدغر. لكنَّ محاولات تتفيه الدين بالسخرية منه بناءً على مفارقات ماسخة إنما تصدرُ من حيّزٍ في الدماغ تُخترعُ فيها النكات لا المفاهيم.
المفارقات توضع للتسلية، وأثرها آنيٌّ، فهي تطلبُ ثمناً فورياً تستوفيه ثم تُنسى. ولذا نُسيت مئات بل آلاف النصوص التي هي محضُ دعاباتٍ رسمت وجوهاً مبتسمة لبضع سنين ثم اندثرت الابتسامات والوجوه. وحتى اليوم لا أحسب أنَّ إنساناً يريد أنْ يقرأ شعراً حقيقياً سيجتذبه بوكوفسكي مثلاً أو من كان مثله من شعراء المفارقة والتسالي.
كلّ هذه المقدمة المليئة بالثرثرة كتبتها لأقول جملة واحدة عن بعض مشاهد افتتاح الألعاب الأولمبيَّة في باريس.
أقول: تتفيه المقدس بمعارضته على هذه الشاكلة فعلُ صغارِ عقولٍ لديهم فقر دمٍ في خيالهم. وهم وعملهم يعبّرون عن أسوأ ما في عصرنا هذا، عصر التسالي الذي ليس لديه إلا المفارقات لمواجهة معمارٍ فكريّ نزف فيه الإنسان أنهارَ دمٍ ودموعٍ وخاضَ صراعاتٍ عميقة مع نفسه ومحيطه. النكتة هي أنْ تقابلَ مكابدة القرون بنكتة.
أردت القول: الاشتغال على المفارقة الساخرة السهلة أفسدَ الشعرَ والفنَّ والفكرَ وسمحَ لمن لم يكدح ليعرف بأنْ يقول إنّي عرفت بمجرد أنْ قلبت الصورة!
موقفي ليس دينياً. بل معرفيٌّ. وأردت فقط أنْ أشير إلى الحضيض الذي نحن فيه.
نعم. هذا هو الحضيض.