مدينة فوق الجبل

ثقافة 2024/07/31
...








يقظان التقي 


لمناسبة ذكرى ميلادها الـ108، افتتح في بلدة رأس المتن (جبل لبنان) متحف سلوى روضة شقير، تكريماً لمسيرة نحاتة تجريديَّة رائدة تُعدّ من الفنانات اللبنانيات والعرب الأكثر حداثة. 

يحمل المتحف المبني وسط غابة صنوبر، توقيع المهندس المعماري اللبناني كريم بكداش، وتشرف عليه هلا شقير ابنة الفنانة ورئيسة مؤسسة سلوى روضة شقير. ويضمّ 600 عمل فنيّ، 500 منها معروضة حالياً، ويعكس استخدام الفنانة للمواد المتنوّعة كالطين والخشب والحجر والألياف الزجاجيّة والنحاس والبرونز والألمنيوم والـ (plexiglass) والفولاذ المقاوم للصدأ. وتتضمّن المجموعة أيضًا تصاميم شقير المبتكرة من الأثاث والسجاد والأطباق والمجوهرات، تأكيدًا على إيمانها بضرورة مزج الفن بالحياة اليوميّة. كما يحتوي المتحف أرشيف الفنانة الشخصيّ الذي يعكس أفكارها ورؤاها وتطوّرها الفني والسياقات الثقافية والتاريخيّة التي أثرّت في عملها.



امرأة أكثر من فنانة، كسرت التابوات منذ الأربعينات، شكلت ظاهرة فنية مدينية. نحاتة فوق العادة، أمضت حياتها في اكتشاف هندسات الأحجام والأرقام الحسابية وبإنجازات نحتية وتركيبية وصناعات أشكال وجماليات، وتحويلها إلى أعمال تتعدّى الواقعية التشبيهية ونقل الواقع ومرجعياته إلى محاولة تفكيكه، أو تراكمه إلى اللانهاية وبعلاقة ثنائية تجادلية عمادها الشكل والكلمة.

فنانة مستقلة بقيت لفترة طويلة من الزمن “غير مفهومية”، سوى لحلقات نخبوية صغيرة في الخمسينات والستينات بعيدة عن الالتزامات الاجتماعية وعن الناس وعن الظروف المختلفة. ثم أخذت شهرتها تتسع في متاحف عالمية في نيويورك و”تيت” في لندن في أكثر من معرض واستعادة فنية، تقاطعت في معرض استعادي كبير في متحف سرسق ومعارض عدة تلقي الأضواء على فلسفتها وتقنياتها وروحها الفنية ومسارات الخط والشكل، وما وراء الشكل والهندسة والقصائد والثنائيات وتكرار الوحدة وما وراء الوحدة.

كرّست سلوى روضة شقير كل حياتها في وظائف جمالية من دون ملل، ولا احتجاج. تصويت تشكيلي عال في المكان لفنانة مقيمة بقوة في معادلاتها والبنى والأحجام، وبفعل الحرية منذ أربعينات القرن الماضي، متجذرة في أرضها، المدى الإسلامي والفكر الصوفي في الفنون ومنفتحة على الحركة الفنية الحديثة في فرنسا والعالم، وتركت معادلات ورموزاً وأعمالاً كثيرة بالمئات تحمل دلالات، وأخرى يصعب تشخيصها ما بين الواقعية والتجريد.

ظاهرة استثنائية، امرأة استثنائية، تركت آثاراً مهمة في الخمسينات والستينات، وعُرفت باختبارية وتجريبية عالية، كيف تتعامل مع المفاهيم التجريدية في مادتي الحجر والخشب وفي المعدن والبرونز بقوالب اختبرت فيها الفلسفة الإبداعية، وحاولت أن تنصهر في الواقع الذي استلهمت منه أفكارها وأدواتها، أو تفككه إلى ما لا نهاية في تكرارات تحولت إلى نظام أفكار خاص وجمالي. كأنها تجمع بين أزمنة متعددة أكثر من امرأة واحدة، وأكثر من شاهدة على زمن واحد وممارساتها في النحت والأبنية والصروح وفي صناعة الخواتم والأقراط والإكسسوارات الخزفية، ما يؤرخ إلى تجربة إبداعية ترجمت بعلاقتها مع الفلسفة والشعر العربي، كجزء من حالة حداثية واحدة في الشعر والشكل والصمت، وفي ممارسات الفن والجمال معاً.

وُلدت سلوى روضة شقير، الرائدة في عالم الفن الحديث، في بيروت العام 1916 وتوفيت في 2017. انتقلت إلى باريس في 1948 حيث درست مع فرناند ليجي (Fernand Léger) وأدّت دوراً محوريًا في إنشاء مشغل “Atelier de l’Art Abstrait” بقيادة إدغار بيلليه (Edgard Pillet) وجان ديوان (Jean Dewasne) وكانت من أوائل الفنانين العرب الذين عرضوا أعمالهم في صالون “Réalités Nouvelles” في 1951، لتصبح بذلك شخصية مهمّة في حركة الفن العالمي الحديث. وتشكل أعمالها حالياً جزءاً من المجموعات الدائمة في أهمّ المتاحف العالمية.

المتحف في الجبل تحول إلى تظاهرة فنية مدينية، مدينة فوق الجبل أعادتها إلى الهواء الطلق في المكان/ الجسد، الذي صاغها واحدة من الأسماء الفنية الريادية في فن التجريد في الشرق الأوسط، وتمثل وجهاً مهماً من وجوه الحداثة المعاصرة التاريخية، وصوتاً تشكيلياً مختلفاً، كان برز في بيروت منذ العام 1940، وعاد يتسلق روابي الجبل في مساحة تعبيرية غنائية تتدفق عاطفياً مع زوار المكان يتأملون نتاجاتها. 

 تخترق شقير صمت المكان، سطح الأشياء وتتعداها إلى جوهرها وعناصرها ، وبفلسفة حياة فنية تمشي مثل الهواء، ما بين العناصر والأشكال وتمزج ما بين التراث الإعلامي والحداثة في هندسة عرض تعبيرية شاعرية للأحجام من مستويات مختلفة وبعضها كبيرة جداً، وللمواد المشغولة بمواد مختلفة من الخشب والمعدن والحجر، إلى لوحات مهمة في التكعيبي، وأخرى في رسم البورتريه، الاوتوبورتريه 1943، وبورتريات بيروت وباريس 1948. ويحتوي العرض أيضاً على أشغال عدة تسلسلية ومعلقات واكسسوارات، أنجزتها الفنانة في نحو مئة قطعة منحوتة (1966 ـ 1968)، في هندسات تكعيبية وتجريدية مشغولة بتقنيات عالية ومركبة الأشكال الداخلية. 

هذا وتحضر في المتحف “جدليات” في تراكيب شعرية عربية في تباعد وتنافر وتنابذ الأشكال، وبطقوس صوفية من ذلك التدفق النثري لأشغال أنجزتها في نثر شعري نثري في لعبة الإمحاء التجريدي والتجلي، وفي عودة بموضوعات محددة تعطيها أشكالاً متجددة. 

سلوى روضة شقير من جيل الرواد الأوائل إلى جانب مصطفى فروخ وعمر الأنسي، درست في الجامعة الأميركية في بيروت وفي معهد الفنون الجميلة وفي باريس وفي استديو فرناند ليجر في باريس 1940. ثم في الولايات المتحدة الأميركية، قبل أن تعود إلى بيروت في العام 1955، وتنجز أعمالاً مهمة على مدى 6 عقود وما بين الأعوام 1980 و1990 فنانة حصلت على اعتراف مهم وتقدير عال على مجمل أعمالها من كبرى المتاحف والصالونات العالمية، وحسناً فعلت ابنتها اللندنية/ البعيدة، أن أعادتها إلى مسقط رأسها، وبجمع أطراف من نتاجها الغني، وجعله بمتناول اللمس والإحساس والرؤية الواسعة والتلذذ بجماليات غير نهائية، وهي تعانق إشراقات وغروب شمس المكان، فتزيد فضاءات المكان إشراقا مع فنانة طليعية رائدة بالكاد يتسع لها المكان الجبلي، وهي مدينة فوق الجبل .