د. أحمد زوير
هكذا يَطوي الجواهري الشاعر الأعظم في تاريخ العراق المعاصر طريقَ الحياةِ، حين يُعلن عمّا تبقى من موحشات الدنيا غير الهمِّ والهرم، وكأنَّه يصرخُ من آهاتِ الاغتراب، التي سوف يُواجهها الكثيرُ من النُّخب الثقافية بعد ما تنطوي صفحات الحياة، بعد تجاوز العمر الافتراضي للعطاء، ويستسلمُ الكائنُ النشيط والمفعم بالحيوية الى دورة الحياة التي تذيبُ الاجساد في رحمها، ويتحول إلى ذاكرة (كانوا هنا ومروا من هناك) منسية، تنتهي بسردية بسيطة، تروي حكايات أغلب رجالات المؤسسات الاكاديمية والمثقفين، الذين ملؤوا قاعاتِ الدراسة وميادين المعرفة بأصواتهم المفعمة، وبما تسلّحوا به من علوم الأولين والآخرين، وبعد انتهاء سِنِي خدمتهم حين يواجهون الواقع، تكون أولى ضحاياهم أصدقاءهم الصامتين، الذين طالما قدموا المشورة والمعونة، التي بدورها تُرجمت إلى أصدقاء جدد، سُمّيَت بأسماء أصحابها الذين تحولوا بفعلها كُتّاباً ومؤلفين ومحققين وشرّاحاً ومترجمين ومفكرين، وغيرها من العناوين، فالكتاب والمكتبة الشخصية خزينة لا بدَّ منها للمختصين في شتى حقول المعرفة، والكل يعرف كيف تُنشأ هذه المكتبات خصوصاً في بلد مثل العراق، له خصيصة في جمع المصادر والدراسات. وهنا لا أتحدثُ عن الأجيال التي توفّرت لهم المصادر عبر المعارض والشراء بشكل مباشر من دور النشر عبر التوصيل السريع، فمَنفذ اقتناء الكتاب قبل عام 2003 كان ينحصر على مجموعة المكتبات، التي تمتلكُ مصادر خاصة في الحصول على النصوص والنسخ الأصلية، فالعملية لم تكن باليسيرة، حتى انفتح العراق بعد زوال النظام البعثي وتحسّن دخل الفرد، لذلك لم تكن المكتبات الشخصية رائجة، واقتصرت على فئة محدودة، منهم الأسر الدينيَّة التي يتوارث الأبناءُ آباءَهم وأجدادهم، وبعض أساتذة الجامعات من الأسماء المرموقة.
لكن الغريب أنَّ هذه المكتبات الشخصية هي الأخرى سوف تمر بحالة من الألم والاغتراب، بمجرد رحيل صاحبِها، ووصول الورثةِ إلى هذه الأوراق الصامتة، التي رحل عنها مستنطقها، الذي طالما كان يحصل على مشورة عقولٍ قد خَطت بسهرٍ وتحرٍّ ودقّة، فأخرجت أبحاثاً ومؤلفات. فالوريث لا يَجدُها إلا أنَّها تشغلُ مكاناً، وتركها يعرضُها للسرقة والتلف.
والأجدر التخلّص منها بأيِّ طريقة، عبر عرضها للبيع، من دون النظر لما تُمثّلُه من إرثٍ معنويّ ومادي، وهو ما استذكرُهُ عن أحد أساتذتي، حين نقل لنا بحرقة بيع ورثة أحد مفكري العراق مكتبة والدهم؛ لأنَّهم لم يستفيدوا من وجودها. وراح أستاذنا يعدد البدائل من بيعها بطريقةٍ تحفظُ اسمَ صاحبِ المكتبة، كونهُ شاهداً على حجمها ومقتنياتها من نفائس الكتب ونوادرها، فضلاً عن المخطوطات والميكروفيلم التي جلبها خلال دراسته خارج البلد. ومن هذه البدائل المقترحة من قِبل أستاذنا المتكلم هي: أنّ الجامعة تُثمن قيمة سعر مثل هذه المكتبات، وتُقدِم على شرائها والاحتفاظ بها في أحد زاويا المكتبة الخاصة بالجامعة أو الكلية، أو كما تفعل الجامعات العريقة بإقامة معارضَ تُخلّد فيها كبار اساتذة الجامعة، وهذا ما فعلته الجامعات الاوربيّة. إذ إنَّها تحتفظُ بدفاتر الملاحظات الخاصة بنيوتن واينشتاين في معارض خاصة في الجامعة، وهذا الصنيعُ حلمٌ لكلِّ اكاديمي، ان تتحول مكتباتهم الى متحف الجامعة بعد تثمينها من قبل المؤسسات التعليميّة، وتجعلُ وجودَها كنوعٍ من الاحتفاظ بالإرث الاكاديمي، أفضل من أن تتحولَ الى تجارة لهكذا نوعٍ في تهريب نوادر الكتب خارج البلد، والغريب في ما أرويه أن الأستاذ نفسه الذي كان يقصُّ علينا هذه الحكايات لم ينتظر الرحيل، بل باع مكتبته ولا أعرف السبب، لعل هناك عذراً اضطره الى بيعها، ولكن هذه القصص تصادفني كثيراً، وأنا اجمعُ الكتبَ التي توقفت دور النشر عن إعادة طباعتها، وهي الأخرى تعدُّ من النفائس، فهل سيكون مصير ما أجمعه عبر سني عمري من أيام دارستي في المرحلة المتوسطة، أي مُذ كنتُ صبياً إلى أن أصل الى مرحلة التفكير بالتفريط بما جمعته في لحظة واحدة حين يضطرني الظرف، أو أن الورثة يقررون أن هذه الكتب تشغل حيزاً بالإمكان التخلص منها لشغله بسرير، وربما بطاولة هي الأخرى، واستثمار مبلغ بيع المكتبة التي جُمعت بمدة قد تتجاوزُ نحو نصف قرن من شتى الأماكن والبلدان واللغات، وتحويلها إلى وديعة تُنفق خلال سنة على الاكثر، أو صرفها لعلاج مريض اضطراراً والأسباب كثيرة. وأتذكر أيضاً حينما قرأتُ سيرة العلامة اللبناني محمد جواد مغنية (تجارب محمد جواد مغنية بقلمه) كان من أمنياته مرافقة مكتبته في الملأ الأعلى، وهو يعلم أنه ليس بحاجة لها، لكنَّ روحهُ قد ارتبطت بها إلى حدٍّ كان يطلق عليها "بستان المعرفة"، فلما جردت هذه البساتين وتحولت إلى أرض بور غير صالحة للزراعة؟، (.... حسبي من الموحشات الهمُّ والهرمُ).