{كودا} لتمجيد الأسرة والتواصل

منصة 2024/08/01
...

 وداد سلوم

عنوان الفيلم "كودا" ما هو إلا  اختصار لعبارة: "ابن البالغين الصم" وقد وصف الفيلم بالرومانسي البسيط، ولهذا فاجأ الجميع بالجوائز التي نالها وأبرزها أوسكار 2022 بعد منافسة مع تسعة أفلام، لعل أبرزها فيلم "قوة الكلب" الذي نال جائزة أفضل إخراج.
ورغم أن فيلم"كودا" مأخوذ عن آخر فرنسي بعنوان "أسرة بيليه" إلا أنه استحق جائزة أفضل سيناريو مقتبس، وهذا يسجل لصالح المخرجة سيان هيدر التي كتبت السيناريو أيضاً.  تتناول قصة الفيلم حياة أسرة مؤلفة من أربعة أشخاص فيها الأب والأم والابن من الصم البكم، أما الابنة "روبي- إميليا جونز" فتختلف عنهم، والاختلاف هنا انتماء للطبيعي، بينما هي في الحقيقة تعيش بين عالمين: عالم الصم البكم وعالم النطق (المجتمع) وهذا جعلها منذ البداية مترجمة الأسرة في حياتها اليومية وعلاقتها بالآخرين من الذهاب للطبيب إلى كل أنواع وأشكال التواصل مع المحيط.
مهمة صعبة تحملتها الطفلة التي كانت تقوم بعبء الدمج بين هذين العالمين على أكمل وجه، ليس فقط في التعبير أثناء المحادثات والتواصل مع الآخرين، بل أيضاً في العمل، حيث تعيش الأسرة من عمل الأب والأخ في الصيد ونتيجة فقدان السمع والنطق، لا يسمح لهما بالإبحار من دون وجود شخص يتكلم ويسمع ليستطيع خفر السواحل والميناء التواصل معهم خاصة في حالات الخطر، وكذلك يحتاج تصريف الصيد إلى التواصل مع التاجر.  كانت تستيقظ معهم منذ الصباح الباكر لتنجز معهم كل ذلك، ثم تذهب إلى المدرسة حيث تتحمل التنمر عليها من قبل الرفاق من دون أن تأبه مبتلعة كل الإهانات القاسية. ومع الانتقال إلى الثانوية تصبح الأعباء عليها أكثر. وبينما كانت صوت الأسرة حتى الآن تحاول روبي التعرف على صوتها الخاص، فتختار الدخول إلى "الكورال" مدفوعة برغبة البقاء بقرب زميل تنجذب إليه، ويا للمفارقة فالشابة تملك صوتاً جميلاً وتحب الغناء، مكتشفة إمكانات الصوت البشري وهي التي تعرف قيمته جيداً، صوت ليس فقط للنطق والتواصل إنه للمتعة والتعبير عن المكنونات الإنسانية واكتشاف عالم الموسيقى والجمال والاقتراب من الحب. ورغم كل ما تعرضت له من تنمر الزملاء امتلكت القوة التي جعلتها تختار وتواصل التدريب في فريق "الكورال" حيث اكتشف الأستاذ تميز صوتها وآمن بقدراتها فوقف بجانبها وساندها في تدريباتها بعد الحفل المدرسي من أجل التقدم إلى كلية الموسيقى لمتابعة الدراسة.
في تلك الفترة كانت الأسرة تعاني من مشكلات كثيرة في العمل، إذ بدأت معركتها لتحسين شروط العمل والخروج من دائرة استغلال التجار للصيادين، وقاموا بتأسيس نقابة للصيادين تهتم بتنظيم أدوار الصيد بينهم، وتأسيس متجر لبيع منتجاتهم مما زاد في الحاجة إلى روبي التي كان عليها المواظبة على التدريب وفقا لجدول وضع لضمان نجاحها في فحص القبول بكلية الموسيقى.  تتعارض المهمتان أمام روبي ويصبح عليها الاختيار الصعب؛ بين حياتها الخاصة وحياة الأسرةالمهنية والثمن سيكون التخلي عن حلمها في دخول الكلية. يطرح الفيلم الصراع الداخلي للفتاة بين حلمها والتزامها بأسرتها وبمشروع الأسرة المصيري الذي صار مجتمعي بامتياز، وجنباً إلى جنب مع مشكلة الأهل ذوي الإعاقة والصعوبات التي يعانونها مع المجتمع، وما يتعرضون له من مشكلات، وعن ضرورة الدمج والوعي المجتمعي لهم ولحاجاتهم ومساندتهم للاستفادة من طاقاتهم ودعمها كجزء حقيقي من النشاط الاقتصادي والاجتماعي.
نكتشف كيف يمتلك هؤلاء الصم صوتاً حقيقياً فاعلاً - بالمقارنة مع أقرانهم الصيادين الصامتين- إذ يعبرون عن رأيهم بالإشارات من دون خوف في اجتماع البلدية، ويعترضون على سلوك الحكومة وقراراتها المجحفة بحقهم، ويتحدونها من أجل تغيير ظروف عملهم وتحسينها وإلغاء التحديات.  ويبدؤون مشروعهم الخاص في بناء تعاونية للصيادين للتخلص من التجار الذين ينهبون عملهم بلا رادع، بل يتكئون في ذلك على قرارات الحكومة وتسويق صيدهم بمعزل عن الوسطاء.
يرغب الجيل الشاب دوماً بإحداث الفارق والمغامرة فالأخ يصر على المشروع رغم الصعوبات، وبينما كان الأب والأم ينتظرون من الابنة البقاء بالقرب للالتزام معهم بمشروعهم الجماعي، يصر الأخ على خوض المغامرة دونها نوعاً من تحقيق الذات واثبات الوجود. تنتبه الأسرة إلى موهبة ابنتها بعد أن رأت نجاحها في حفل التخرج من المدرسة الثانوية وتدعمها للتقدم في امتحان القبول إلى كلية الموسيقا في آخر لحظة، حيث تحضر الامتحان معها وتقوم روبي بالأداء الغنائي مقروناً بالإشارات لتتمكن أسرتها من فهم اغنيتها في موقف مؤثر جداً.
الفيلم يضرب على أوتار العاطفة بقوة. إنساني فيه من الرومانسية والجمال وإنعاش الأحاسيس وملامسة حاجة التواصل والحب والتعبير عن الذات، والتنبيه لأهمية الأسرةالتي تمنح الأبناء القدرة على النجاح وتذلل الصعوبات أمامهم بتماسكها ومنحها الحب، فقد بدا أن مفهوم الإعاقة يكمن خارج الاحتياجات الجسدية التي لا بد من طريقة لتعويضها بالثقة بالنفس والمعنويات العالية.
كما إن عطاء الحب يستدرج منح الحب، وعلينا إدراك أهمية مد يد العون لدمج ذوي الإعاقة للاستفادة من قدراتهم وأفكارهم، وعدم التمييز على أساس القدرات الجسدية أو العرق واللون، وهو ما تقره المجتمعات والقوانين، ولكن للأسف على الورق فقط. تعيش الأسرة في داخل الشابة بعمق حتى أنها حين تريد التعبير عما يعنيه الغناء لها تعبر بلغة الاشارة لتكون حقيقية جداً، رغم أنها تعبر عن صوت الصم، بأنه قبيح حين يسألها الأستاذ عنه، هذا الصوت القبيح هو الذي يأمرها قائلاً go بلسان أبيها محفزاً لها الانطلاق إلى المستقبل. لم يكن "كودا" الفيلم الأول الذي يهتم بذوي الاعاقة وحصد الأوسكار، فهناك فيلم "قدمي اليسرى" الذي فاز بجائزة أفضل ممثل، كما فاز فيلم "أنا سام" بجائزة أفضل ممثل لشون بن، وفيلم "البيانو" جائزة أفضل سيناريو أصلي وأفضل ممثلة، وغيره. نال فيلم "كودا" أيضاً جائزة أفضل ممثل أصم مساعد، وجوائز أخرى كجائزة نقابة المنتجين الأمريكيين، وجائزة الأكاديمية البريطانية، وجمعية نقاد السينما وغيرها.