مأزق الشجرة والإسمنت

آراء 2024/08/07
...

 د. مسلم عباس

حسنا فعل رئيس الحكومة عندما “وجه بإطلاق حملة تشجير كبرى”، وحسناً فعل بأن أعطى مركزية للتوعية المجتمعية بأهمية التشجير وتتولى هذه الحملة شبكة الإعلام العراقي، فالعلاقة بين الشجرة والتوعية بها واحدة، ما الوعي إلا شجرة تغرس في تربة المجتمع، فتنتج خيمة كبيرة تستظل بها الحكومة لمواجهة صعوبات التنفيذ، وما الشجرة (النبتة) التي هي روح الحضارة الحديثة إلا نتاج الوعي بأهميتها وقيمتها العظيمة ليس للعراق فحسب بل للكوكب برمته.
التوجيه بحملة التشجير ليس قراراً لرئيس الحكومة فحسب، بل هو مطلب وطني وبيئي استراتيجي، نحن نتحدث عن الصيف اللاهب، والمناطق المغطاة بالأشجار تكبح حرارة الطقس لما يقرب من عشر درجات كاملة، فإذا كانت مقياس الحرارة يؤشر 40 درجة مئوية في المناطق الاسمنتية مثل مدن وأحياء العراق، فإن المناطق المزروعة بالأشجار تنخفض فيها الحرارة إلى حوالي 30 درجة.
هذه فائدة نلمسها في حياتنا اليومية، ما عدا فوائدها الجمالية والظلية والاقتصادية، إنها الحياة والحضارة الحديثة، وهي مصدر الهواء النقي لرئة الإنسان، وإذا كان الماء مصدر الحياة، فالشجرة هي الحياة بذاتها.
لكن الحديث عن زراعة الأشجار ترف بالنسبة لمواطن لا يستطيع شراء دار اسمنتية بمساحة 100 متر مربع، قد تغضبه أخبار التشجير بينما يكافح هو للحصول على أربعة جدران تحميه من غضب الطقس، لا يمانع هذا المواطن إذا ما اختفت المناطق الخضراء في أطراف المدن إذا كان في تجريفها توفير لمساحة يبني فيها منزل العمر، كما لا يمانع برؤية الإسمنت يغطي كل شبر من مدن العراق، فـ”صاحب الحاجة أعمى” وفاقد البيت لا يرى في أحلامه سوى بناء جدران الاسمنت.
 نحن الآن في مأزق، هل نزرع الشجرة أم نبني الجدران الاسمنتية؟ مأزقنا الحقيقي بين الحرب ضد التصحر، التي يجب أن نباشر بها اليوم قبل الغد، وبين معوقات البيئة الاجتماعية التي لها هموم أخرى غير التشجير، والقرار الحكومي لا يمكن نجاحه بدون دعم اجتماعي يؤمن بفكرة التشجير بحيث لا يعتبرها تتناقض مع تطلعاته في بناء المنزل.
نحن بحاجة إلى خلق مزيج واحد من رغبتي التشجير والبناء الاسمنتي بحيث لا تصارع إحداهما الآخرى، بمعنى إقناع الناس بأن جدران المنزل التي نبحث عنها لا تكتمل إلا بالحفاظ على الشجرة القديمة وزراعة أخرى جديدة، تكون سقفاً يحتضن المنزل وسقفه، وجهاز تبريد طبيعي يقلل من علاقتنا الرومانسية مع المكيفات الكهربائية.
ومن حسن حظنا أن الدول الأخرى تجاوزت حالات أصعب من حالتنا هذه بفضل الاستخدام المنهجي لوسائل الإعلام، فقد وقعت الولايات المتحدة في مأزق خطير بين ضرورة مشاركتها بالحرب العالمية الاولى وبين رفض الشعب الأمريكي لهذا الفعل الذي قد يغير وضع البلاد نحو
الأسوأ.
الحل جاء من خلال تأسيس لجنة المعلومات وترأسها الصحفي “جورج كريل” بأمر الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” عام 1917، والهدف كان حشد التأييد الشعبي اللازم لمشاركة أمريكا في الحرب العالمية الأولى، ولم يكن اقناع الشعب الأمريكي بالأمر السهل لا سيما مع رفض غالبية المواطنين للمشاركة في الحرب.
جند كريل الكُتاب والموسيقيين والفنانين ورواد الدعاية الوطنيين، فتحولت اللجنة إلى مؤسسة متكاملة موزعة بين مكاتب ولجان فرعية وأقسام، كلٌّ منها يختص بإنتاج نوع معين من الرسائل الإعلامية، مثل الأخبار، والأفلام، ومكتب الدعاية التصويرية، وإدارة الأجانب المولودين في أمريكا، وإدارة معارضي الحرب، وقسم الرسوم المتحركة، وقسم الخطابة، ولجنة الرقابة، وقسم أعمال النساء، وغيرها، حتى أن أشهر أيقونة وطنية أمريكية (العم سام) كانت من إنتاج رسامي هذه اللجنة.
ابتكرت اللجنة ما عرف ب”رجال الدقائق الأربعة” وهم جيش مكون من 75 ألف متطوع مستعدون للخطابة في الأماكن العامة وتوجيه خطب وطنية تثير الحمالة لمدة أربع دقائق، كي لا تتجاوز الخطبة مدة الانتباه التي قدرت بأربع دقائق.
ألقى جيش كريل - الشبيه بالجيوش الإلكترونية- أكثر من 7.5 ملايين خطبة رباعية الدقائق على مسامع 314 مليون أمريكي، أي أن كل مواطن استمع لما يقرب من ثلاث خطب من رجال الدقائق الأربعة.
وخلال ستة أشهر فقط تغير موقف الشعب الأمريكي من الحرب ليس بالقبول بها فحسب، بل وبالدعوة للمشاركة بها، وبالفعل شارك الشعب الأمريكي بتمويل الحرب بنسبة 58% عبر شراء ما عرف بصكوك الحرية، حيث أصدرت الحكومة صكوكًا لتمويل الحرب أسمتها “صكوك الحرية”، وتولت اللجنة ذاتها مهمة تسويق هذه الصكوك.
نتائج لجنة كريل تؤكد قوة الإعلام في التأثير بالجماهير لدفعها لتأييد القضايا الوطنية الاستراتيجية، وإذا كانت مشاركة أمريكا في الحرب ضد الألمان خياراً مفصلياً، فإن حرب العراق ضد هيمنة الاسمنت تعد قرارا غير قابل للنقاش في ظل التأثيرات الخطيرة والملموسة لتهميش الاشجار في بلاد علمت الإنسان الزراعة والكتابة.
وفي عصرنا لسنا بحاجة إلى إعادة اختراع الزراعة ولا الكتابة، كل ما نحتاجه هو قرار سياسي جدي، وتجنيد وسائل الإعلام – ليست شبكة الإعلام فحسب- والكتاب والفنانين والمشاهير والمثقفين والاكاديميين، لتوعية العراقيين بخطورة تهميش الشجرة وتقديس الاسمنت.
التشجير بحاجة إلى جهود جبارة شبيهة بجهود جورج كريل، بحيث نصنع رسائل مليونية تخاطب جميع العقول، وتحشد في ذات الوقت جميع المواطنين بكل مستوياتهم.
والجهود التي نبذلها على صناعة الرسائل الإعلامية الإقناعية بشأن حملة التشجير ستوفر لنا بلداً أخضر تستعيد فيه الشجرة مساحتها الطبيعية، وربما نبتعد ولو جزئياً عن درجات الحرارة الخمسينية، بينما يمكن لأصحاب السيارات ركن سياراتهم تحت ظل الأشجار الكريمة.