من التنوير إلى التثوير.. بين علي الوردي وعلي شريعتي

آراء 2024/08/08
...


 علي المرهج


نجد الكثير من آراء ومفاهيم علي الوردي تحضر في أطروحات وآراء ومفاهيم علي شريعتي، على ما بين الاثنين من اختلاف في الوجه الفكري، فالوردي ذو نزوة تنويرية علمانية، بينما نزوع شريعتي إسلامي ثوري. 

يحاول شريعتي أن يجعل من الخاص يحتوي العام، أي أنه يحاول أن يقرأ الإسلام بعيون التشيع، بل ويحاول أن يقرأ التسنن في ضوء رؤيته للتشيع، وهذا أمر مقبول من جهة الرغبة والطموح، ولكن من الصعب القبول به من الشيعة والسنة على وجه العموم، فلكل مذهب منطلقاته التي لا تتفق ومنطلقات المذهب الآخر، إلا من جهة العموم، أي من جهة مقبولية التنوع لا من جهة السعي لتبويب مذهب، وجعله يسير بمسار واحد مع المذهب المغاير، أو لجعل الإسلام بكل تنوعه الحضاري منظوراً له عبر نظارة التشيع.

من الصعب لقارئ شريعتي أن يفرز بين نزعته في التثوير ونزعته في التنوير، فلطالما سعى أن يعمل على التنوير، ولكنه يخلطه بالتثوير!.

هناك تناص فكري ومفاهيمي واضح بين شريعتي والوردي، وكأن كتابات الوردي وظفت لصالح نزعة شريعتي الثورية.

إنه التنوير المرتبط بنزعة الأنسنة عند الوردي بالتماهي مع العقلانية المجردة، ولكنه عند شريعتي مدمج مع نزعة «التثوير»، الذي يكشف عنه في الإسلام المبكر عند النبي (ص) وعند علي (ع)، وآل البيت (عليهم السلام وبعض من الأصحاب والتابعين المقربين من الإمام علي (ع) أمثال: (أبو ذر) و(عمار) و (سلمان الفارسي)، وهذه أمثلة ثورية في مضامين فكرها وطريقة حياتها نزعات تنويرية. 

لقد سبق علي الوردي (شريعتي) في الالتفات والتنبيه لهؤلاء الصحابة ودورهم الثوري والتوعوي، فكلهم من أتباع الإمام علي (ع)، وكانوا ثائرين يدعون للخروج من هيمنة السلطة القرشية أو ما أسماه الوردي «حزب قريش» التي استحوذت على دين محمد، من أجل تحقيق «العدالة الاجتماعية» و»المساواة بين العبيد والسادة كما يدعو لذلك عمار بن ياسر، والمساواة بين الأغنياء والفقراء، كما يدعو لذلك أبو ذر كما يذكر علي الوردي، وقد وصف الوردي الإمام علي (ع) بأنه «ظاهرة اجتماعية عجيبة»، مُستشهداً بقول أحمد بن حنبل فيه «ما جاء لأحد من الفضائل مثل علي». 

على الرغم من حضور الوردي، كما نعتقد في كتابات علي شريعتي، إلّا أننا نعتقد أن (الوردي) يعترف بتأثره بشكل واضح بنزعة التنوير الغربية متمثلة بفلاسفتها: كانت وفولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو، بل وتأثر بمن تأثر بهم لا سيما الفلسفة الماركسية رغم نقده اللاذع لها، ولكنه بقي على حافة هذا الفكر العقلاني يوظفه أو «يُبيئه» بحسب تعبير محمد عابد الجابري بحسب مقتضى التفسير ومتطلبات الخطبة، التي كان يُلقيها في (حُسينية الارشاد) ومناسبتها.

بنظرة نقدية لفكر شريعتي نجده يوظف الفكر الغربي ونزعة التنوير في نقده للدين «التخديري» ليُفرق بينه وبين الدين الثوري الذي يهبنا ـ بحسب وصفه ـ الكرامة والإباء ويمنح معتنقيه مساحة من الحرية، لممارسة النقد والشعور بالمسؤولية، فتجد المؤمن فيه واعياً لتحولات الحياة يستلهم وعيه الحر من إيمانه، الذي لا يستحسن المؤمن (العاقل) معناه من دون تساؤل فيه بعض تمد وخروج عن مهيمنات السائد والوعي (المحافظ).

الدين الثوري والثورية هي التي تتحقق بها الحرية التي يبتغيها دعاة التنوير ونزوع الأحرار نحو الوعي بذواتهم، كأناس يتعقلون الوجود، رافضين كل مقولات «الروزخونيين» الساعين بكدَ عملي وخطابي لترويض العقل وتحجيم دوره.

كل حركة ثورية تصحيحية، وإن لم يتقبلها المحافظون الفاسدون هي نبتة وعي يفرح بها دعاة الدين الثوري، ويخشى منها دعاة الدين التبريري أو الأفيوني.

ليس شرطاً أن يكون من يدعون انتساباً للدين (اللاهوتي) التوحيدي، بمجرد دعواهم وتخرصاتهم في التبني لهذا الدين أنهم من أتباعه الصالحين، بل ربما ـ وهذا الحاصل أنهم من أحط الناس كذابون أفاقون يدعون شرفاً ليس فيهم، لأنهم يعملون بكل ما أوتيوا من سوء الفهم وخلط المفاهيم وخداع بسطاء الناس، ليجعلوا منهم تابعين يحذون حذوهم لا لدراية وتعقل، بل لأنهم يُجيدون تسطيح عقولهم عبر اللعب على عواطفهم، فتجد (الرواديد) وصغار رجال الدين مثلاً يعتاشون على مصاب الإمام الحُسين ويكسبون من مقتله أكثر مما كسب يزيد.

إنه «الدين الأفيوني» بتعبير (شريعتي) أو «الدين الكهاني بتعبير (علي الوردي). إنه دين كل غاية صحبه والتابعون جعل الناس يسيرون على هدي من يدعون معرفة بالدين، المخادعون الذين هادنوا السلطة.

الأصل في الدين الثوري الأصل الرفض والاعتراض بوصفهما قيمتين للحرية، ولكن شيوع الدين التبريري (الطقوسي)، قلل من مقبولية الدين الثوري وحضوره في الحياة الاجتماعية!.

الدين الثوري وليد الوعي العقلاني المعارض، بينما الدين التبريري مكمن شيوع التقديس والأسطرة بلا لماذا وكيف!.