فتنة اللغة

آراء 2024/08/08
...

 رعد أطياف

المتماثلون يصيبهم الاختلاف بالفزع. ويجهدون انفسهم بمزيد من التعصب والانغلاق، ليبدو العالم طبقا لصورتهم. ليس لأنهم «يفكرون»، ولا لأنهم مدفوعون بحب الخير، بل لأنهم يدافعون بشراسة عن عاداتهم، التي أضحت جزءاً لا يتجزأ من «وجودهم». أنهم يضحون بوجودهم الأصيل-القائم على الحرية والاختيار- والاستعاضة عنه بثرثرة وشعارات جوهرها التبرير ووظيفتها إفراغ اللغة من كل مضمون حقيقي.

وبقوة السحر اللغوي المفرغ من معناه، يواجه عموم الناس الشبهات التي يتعرضون لها. أنهم يحولون اللغة إلى قنابل دخانية وبالونات فارغة، وتغدو المواضيع التي يتناولونها صوراً مغرقة بالتجريد. فحين تتعرض إلى النقد، على سبيل المثال، فما عليك سوى المحاولة لرصف الكلمات بطريقة مضادّة ليبدو جواباً مفحماً للخصم، متناسياً قوة الواقع وشواهده الصارخة على فساد ما تتحذلق به. 

 الانفصال عن عالم العيش ومحاولة تصنيع أشكال تعبيرية فارغة من المدلول مُعَدَّة لغرض الجدل، هي محاولات بائسة لا تحظى باحترام الذات والآخر، وبمرور الزمن يتضح هزالها وضعف منطقها الداخلي.  أتذكر أيام مراهقتي قرأت عبارة لفيورباخ في كتاب لا أتذكر عنوانه يقول فيها « إن هذا الرجل القانت في محرابه ما هو إلا فريسة تمزقها أنياب الوهم». وبدلاً من الاستعانة بالشواهد والأدلة العقلية الناضجة ومحاولة الاستزادة العلمية الحقيقية، قمت فورا باستبدال المقدمة، عبر رصف الكلمات عن طريق التقديم والتأخير، ظنّاً منّي بيسر المهمة، وقلت: «ما أنت يا فيورباخ إلّا فريسة تمزقها أنياب الوهم»(انتهى أمر فيورباخ!). 

 وحين يختلي أحدنا مع نفسه ربما سيكتشف الكثير من هذا اللعب الصبياني، وسيكتشف أيضاً حقيقة مفادها بأن اللغة حين تتجرد من مدلولاتها تتحول إلى تهويمات ذهنية، تنفصل عن الواقع تماماً، فتتحول إلى «قصائد شعرية» خالية من حرارة التجربة الداخلية، يغلب عليها طابع اللغة أكثر من المعايشة الحقيقية، فنستبدل عالم العيش بجدالات منطقية صورية عالية التجريد مغتربة عن الواقع تماماً، وشعارات رومانسية تفتقر إلى أدنى مدلول للمصداقية والالتزام. إنها لعبة من ألعاب الذات، أو، بتعبير أدق، سجن من سجون الذات، تتحول فيه هذه الأخيرة إلى حزب مغلق على نفسه غاطس في 

التجريد. 

الشخص المتحزب لا تهمه الحقيقة بقدر ما تهمه المحاججة، ولا يهمه الواقع الملموس بقدر ما يهمه التجريد. تستهويه لعبة فصل الأشكال عن مضامينها بمزيد من البالونات اللغوية. إن ردود الأفعال التي تترجم مخاوفها تجاه كل ما هو جديد على شكل هزات عنيفة، ليس الحرص على الحقيقة من يحرك مخاوفها، وإنما شدة الضوء الذي اخترق الحجاب وأماط اللثام عن مسلّماتها، فبدا الأمر واضحاً وجلياً لدرجة أنه بيّن قوة الارتكاس، التي كنّا فيها بسبب الشعارات الفارغة. 

 فمن الذي يخاف هنا ضد هذا الكشف الجريء؟ إنها العادات تريد الثأر لنفسها! لذلك نحن لا نقف بوجه الكشف الجديد، لغرض الدفاع عن الحقيقة، وإنما ندافع وبشراسة عن تلك الألفة المُحَبَّبَة التي كنّا فيها؛ ألفة العادات والتكرارات والتصورات المزيفة عن ذواتنا التي غلّفها حجاب اللغة السميك. 

فسواء كنا افراداً أم جماعات، دينيين أم دنيويين، فنحن، على وجه العموم: «نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا. . ». الإيمان بالاختلاف يبدد هذه 

الظلمة. 

وربما من المفيد أن ننظر للعادات على أنها أكبر مضاد لعملية النمو والازدهار على صعيد الفرد والمجتمع، ولا يمكنها أن تتنازل عن هيمنتها، وقوتها التبريرية التي تستمدها من سحر اللغة وتخديرها: «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، «نموت ويحيا الوطن»، «أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة»، «إذا بلغ الفطام لنا صبي تخرّ له الجبابر ساجدينا». . أنه بحر مالح لا يروي العطشان أعني به فتنة اللغة.