الهروب الإسرائيلي إلى الأمام

آراء 2024/08/11
...

عادل الجبوري

 هل انتصر الكيان الصهيوني بعد قتله كل من القيادي العسكري الكبير في حزب الله اللبناني، فؤاد شكر، ورئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الاسلامية الفلسطينية(حماس)، اسماعيل هنية؟.
 بعض الاوساط والمحافل السياسية، ووسائل الاعلام الغربية، ومعها محافل سياسية ووسائل اعلام عربية، تذهب إلى أن تل أبيب سجلت انتصارا كبيرا جدا بنجاحها في غضون ساعات قلائل، باغتيال اثنين من ابرز قادة محور المقاومة. وللوهلة الاولى تبدو الامور كذلك لمن يستغرق في متابعة قسم من منصات الاعلام الغربي بصورة سطحية بعيدا عن التدقيق في التفاصيل والجزئيات، والحقائق والارقام، والعودة قليلا إلى الوراء، للوقوف على معطيات ونتائج ومخرجات التجارب السابقة.
 قد تكون الصورة مختلفة لمن يدقق ويحلل ويتأمل، واغلب الظن انها ستبدو قاتمة وسوداوية إلى حد كبير بالنسبة إلى تل ابيب.
 فعلى امتداد ثلاثين عاما أو أكثر، تمكن الكيان الصهيوني من اغتيال قادة وزعماء كبار من لبنان وفلسطين وإيران ودول اخرى، مثل الأمين العام لحزب الله اللبناني السابق الشهيد السيد عباس الموسوي، والأمين العام لحركة الجهاد الفلسطينية الشهيد فتحي الشقاقي، والأمين العام لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشيخ أحمد ياسين، والقيادي الفلسطيني عبد العزيز الرنتيسي، وغيرهم.
 بيد أنه وعلى العكس مما كان يخطط له قادة الكيان الصهيوني ويتمنونه من وراء تلك الاغتيالات، بإضعاف حركة المقاومة، وتعزيز امن الكيان، فإن مختلف قوى وأطراف المقاومة اكتسبت المزيد من القوة والحضور الميداني، وما معركة «طوفان الاقصى» المستمرة منذ حوالي عشرة شهور، إلا دليل دامغ على ذلك، فضلا عن الضربات المتتالية التي يتلقاها هذا الكيان يوميا من حركات المقاومة اللبنانية واليمنية والعراقية والفلسطينية، التي تسببت له بخسائر وانكسارات مادية ومعنوية هائلة.
 ومن الناحية المنطقية والعقلية، أن من يحقق نصرا أو مكسبا أو انجازا- سواء كان فردا أو جماعة- فلا بد أن يشعر بالفرح والسعادة، ويستشعر طعم وحلاوة ما حققه، ولكن هل استشعر الكيان الصهيوني ذلك، بعد أن قتل فؤاد شكر واسماعيل هنية؟.. كل الحقائق والمعطيات والمؤشرات تؤكد خلاف ذلك تماما، فحالة القلق والذعر والرعب باتت تسيطر على المنظومة السياسية والأمنية والاقتصادية الاسرائيلية، ناهيك عن مواطني ذلك الكيان في كل مدنه ومناطقه، وليس فقط تلك المحاذية والقريبة من الحدود اللبنانية ومن قطاع غزة.
 ليس هذا فحسب، بل إن شللا شبه تام قد أصاب المطارات والموانئ، وغيرها من المفاصل الاقتصادية الحيوية الإسرائيلية، حتى أن الأرقام تتحدث عن خسائر مالية فادحة بمليارات الدولارات، لحقت بالاقتصاد الإسرائيلي بعد اغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية.
 وحتى أن كانت الولايات المتحدة الأميركية داعمة ومؤيدة لخطوات رئيس وزراء الكيان الصهيوني في توسيع دائرة الصراع عبر خيار الاغتيالات، فإنها في الواقع لا تستطيع في ظل الاجواء الدولية الغاضبة والرافضة لسياسات تل ابيب، ان تسير وراء نتنياهو واليمين الصهيوني المتطرف على طول الخط، ولا ترغب في توسيع نطاق الصراع في المنطقة، لأن ذلك يمكن أن يخلط الأوراق ويعرض مصالحها للخطر، حتى وإن كانت تتفوق على خصومها وأعدائها بإمكانياتها العسكرية والمالية والتقنية.
 والنقطة الاخرى، تتمثل في أن الذهاب إلى خيار الاغتيالات، قد لا يعكس قوة صاحب هذا الخيار، بقدر ما يعكس ضعفه وتخبطه، وعجزه عن تحقيق مكاسب استراتيجية تتيح له تحصين أمنه القومي وجبهاته الخارجية والداخلية، وما معركة «طوفان الاقصى»، التي فشل الكيان الصهيوني، رغم مرور عشرة شهور عليها، في حسمها لصالحه، رغم الدعم والإسناد الدولي الكبير له على كل الاصعدة والمستويات، الا دليل واضح ودامغ على ذلك.
 فقادة تل ابيب السياسيين والعسكريين والامنيين، لم يخفقوا إلى ابعد الحدود في تحقيق انتصارات حقيقية فحسب، بل انهم فشلوا فشلا ذريعا في منع توسع الجبهات ضدهم، من لبنان واليمن والعراق وايران، وربما تنفتح عليهم جبهات اخرى لاحقا.
 ولم يعد الكثير من الاصدقاء والحلفاء الاقليميين والدوليين للكيان الصهيوني، مقتنعين بمسارات صناع قراره في ادارة وتوجيه الامور. ويمكن التأكد من ذلك، من خلال ما يقال ويكتب في وسائل الاعلام والمنابر السياسية الغربية عن المأزق الكبير الذي تسبب به بنيامين نتنياهو وحلفائه السياسيين والدينيين المتطرفين. وقد يكون ما كتبه رئيس تحرير موقع «ميدل ايست اي» البريطاني، ديفيد هيرست، افضل مصداق يختزل ما يطرح ويقال في المحافل الغربية، إذ أكد «أن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية، كان خطأ جسيما ومتسرعا، قد يرمي إسرائيل إلى الهاوية، ويزج بها في حرب هي غير مؤهلة لمواجهتها».
 فضلا عن ذلك، فإن دولا عديدة، مثل روسيا والصين وباكستان، أبدت استعدادها للوقوف مع ايران ومساندتها عسكريا في حال هاجمت الكيان الصهيوني ردا على اغتيال هنية.   وحتى تكون الصورة أوضح، فإن متابعة بسيطة وسريعة وعابرة لما تكتبه يوميا الصحف الاسرائيلية الواسعة الانتشار، مثل «معاريف» و»هاارتس»، و»يديعوت احرونوت»، يكشف حجم التداعيات والمخاطر السياسية والاقتصادية والامنية والمجتمعية التي نتجت عن معركة «طوفان الاقصى» وتشعباتها على الكيان الصهيوني، حتى أن الكثيرين هناك باتوا يتحدثون ويتخوفون ويخشون من الوصول إلى مرحلة الانهيار الكامل للكيان، عاجلا أم آجلا. لا سيما في ظل الانقسامات السياسية الحادة، والضغوطات الاقتصادية القاسية، والثغرات والاختراقات الامنية الفاضحة، وضعف البنية العسكرية في ظل مقتل آلاف الجنود والضباط، وهروب وتسرب آلاف اخرى منهم، ناهيك عن المشكلات النفسية والصحية التي أفرزتها أجواء الرعب والقلق في المعارك.
 ولعل ما ذكرته صحيفة «يديعوت احرونوت» مؤخرا بهذا الخصوص، يعد مثالا بسيطا على ما ذهبنا اليه، فهي أشارت إلى «أن أكثر من عشرة آلاف جندي اسرائيلي قتلوا وجرحوا منذ بداية حرب غزة، وان نحو الف جندي اسرائيلي ينضمون شهريا إلى قسم إعادة التأهيل في وزارة الدفاع لإصابتهم بإعاقات عقلية وجسدية»، إلى جانب تصاعد الصدامات والتوترات بين الشرطة الإسرائيلية وطائفة اليهود «الحريديم» ذات التوجهات الدينية، بسبب استدعاء أفراد هذه الطائفة للانخراط في أداء الخدمة العسكرية.
 في الواقع، لم يعد بإمكان قادة الكيان الصهيوني ترميم وإصلاح ما خربوه بسهولة، وربما هذا هو الذي يجعلهم يهربون إلى الأمام بخطوات متهورة وحمقاء، ليغوصوا عميقا في مستنقع المشكلات والأزمات، بدلا من أن يحاولوا الخروج منه بأقل قدر من الخسائر والخيبات والانتكاسات.