جواد علي كسار
نعم، من أقصده تحديداً هو الكسندر دوغين وقد تحوّل خارج روسيا إلى «بيّاع» كلام، عندما حوّل الأفكار إلى بضاعة يتاجر بها، وهو يحرص بذكاء على إسماع الآخر، ما يرغب بسماعه.
الإيرانيون هم الأكثر إعجاباً به خارج بلده، وقد زارهم مرّات لامس بكلامه وأحاديثه وحتى مصطلحاته، أخيلة العقل الإيراني وبواطن اللاشعور، وهو يمارس خديعة العقل الثوري بمناغاة أوهامه الكبرى، وتغذيته بما يُحب أنْ يسمعه، ولفّ نسيج الأوهام من حوله لإحكام السيطرة عليه، ومنعه من التفكير خارج الإطار.
جرى أحد اللقاءات المطوّلة معه في أصفهان، فقال من فوره مجاملاً: «لقد أدركتُ الجمال الاستثنائي لهذه المدينة وأنها المركز الثقافي لإيران». ثمّ تحدّث عن «النظرية الرابعة» وسط نظريات أربع في سوق السياسة العالمية، هي الليبرالية ذات الماهية الشيطانية بحسب وصفه، والشيوعية وهذه وإنْ كانت مناهضة لليبرالية إلا أن مقتلها في ماديتها وإلحادها، وقد انكسرت. والثالثة هي النظرية الوطنية وهي أفضل من الشيوعية، لكنها لا تقوم على أساس فلسفي متين، وهي بضاعة الطبقة البرجوازية، دائماً بحسب أوصافه بل وألفاظه.
ثمّ انتقل لمخاطبة الحضور من مثقفين وبعض المعمّمين والجامعيين وغيرهم، بالقول: «عندما دخلتُ إيران أدركتُ أن لكم نظرية رابعة في السياسة، لأن نظرية ولاية الفقيه ليست ليبرالية أو شيوعية ووطنية، بل هي بديل لهذه النظريات». بعد ذلك راح يُغذّي مخيال الحاضرين بتشبيهات ومقارنات، عندما ذكر أن روسيا وإيران يلتقيان في النظرية الرابعة، وبالبحث عن الهوية، ويجتمعان بالمعنوية والغيب والإيمان بـ«ربّ العالمين» (وقد نطقها بالعربية!) وأن بقية الحضارات وعلى رأسها الغرب شيطانية بذاتها، ليس بفعل طابعها الاستعماري أو الاستكباري أو بفعل أدوات السيطرة والهيمنة التي تمارسها، بل لأنها تنكر قدرة الله سبحانه، ليطلق وصيته لمستمعيه نصاً: «لا ينبغي للثورة أن تقف، لأن توقفها يعني خسارة العدالة الدينية»، والأخطر تحذيره لهم من العلاقة مع الغرب: «لأننا إذا أردنا أن تكون لنا علاقة مع الشيطان الكبير، فقد خنّا أصل الثورة» ليجرّ العقل الإيراني الثوري عبر هذا التصعيد من المديح الساذج، إلى المزيد من العزلة عن العالم وقواه المتطوّرة، ويدفع لتصاعد العسكرة، ولكي تبقى عيون طهران مشدودة إلى موسكو فقط.
الطريف جداً هي القراءة المعكوسة التي يقدّمها للإيمان ودور الدين بين الغرب وروسيا، عندما يطعن دوغين بإيمان الغربيين وتدينهم، ليسجّل أن روسيا مستغرقة بالهوية المسيحية الأرثوذكسية، وأن هذه الهوية مناهضة ذاتاً لأمريكا، وأن كما لإيران رمزاً دينياً هو الفقيه الولي، فإن الرئيس بوتين هو ممثل المسيحية الأرثوذكسية ورمز الهوية الدينية لروسيا، من دون أن ينسى ذمّ غورباتشوف آخر زعماء الاتحاد السوفيتي وأنه قاد بلده للانهيار، ليس بسبب تصاعد العسكرة والقسوة ومصادرة الحريات وضعف الاقتصاد، بل فقط لأنه لم يسمع نصيحة السيد الخميني في الرسالة التي كان قد بعثها إليه في اليوم الأول من عام 1989م، مشدّداً لمخاطبيه على ضرورة أن تأخذ إيران بالعرفان كقاعدة مركزية لوجودها، وليس بأسباب العلم والعقل، وأن تعي دورها عبر أطروحة آخر الزمان، هذه الأطروحة التي قال في وصفها كذباً، أنها مختصة بالإيرانيين وحدهم، وهي ليست كذلك!
بعد قراءة تهويمات دوغين للآخرين وكلامه المعروض للبيع خارج روسيا، تخيّلتُ أنه لو عاد به الزمان إلى الوراء، والتقى بجمال عبد الناصر لمدح كتابه «فلسفة الثورة» وجعله فوق القرآن الكريم، وقال له ما قاله للإيرانيين، وكذلك لو التقى بمعمر القذافي لكرّر ما قاله للإيرانيين عن «الكتاب الأخضر»، ولو قُدّر له أن يلتقي بصدام حسين لجعل من كراسة «حول كتابة التأريخ» عملاً نظرياً يتجاوز شبلنجر وتوينبي وقبلهم كانت
وهيغل!
هكذا هم باعة الكلام وتجار الأفكار، فما تهمهم قطّ مصائر الشعوب ومحنها، وما أكثرهم في ساحتنا اليوم وهم يتراقصون على جراح الناس ودمائهم وكراماتهم، ومع ذلك هناك من يريد في بلدنا استضافة هذا الرجل في زيارة الأربعين!