كربلاء الأربعين.. ملتقى الحوار الحضاري

آراء 2024/08/15
...

  جواد العطار


بين شهري محرم وصفر من كل عام، تشهد مدينة كربلاء المقدسة تجمعا بشريا هو الأكبر عالميا لأداء مراسم زيارة الأربعينية، إحياءً لذكرى استشهاد الامام الحسين في العاشر من محرم الحرام، وبحسب آخر احصائيات مجلس المحافظة لإعداد الزائرين في العام الماضي 2023 فقد بلغت اكثر من 22 مليون زائر من العراقيين والعرب والمسلمين.. قدموا من كل حدب وصوب، ومن مختلف الأراضي والبقاع للمشاركة والتعزية وأداء الزيارة.
التساؤل الذي يطرح نفسه، هو أي قوة هائلة تقف وراء هذا التجمع والاندفاع والتحدي والبذل والعطاء اللا محدود من قبل مختلف الشرائح، بدءا من الشيخ الكبير والمرأة المسنة والشاب اليافع وصولا للطفل الصغير، فالجميع يقطع القفار ومئات الكيلومترات سيرا على الأقدام غير آبه بالظروف الجوية، ولا الأعباء المادية للسفر والتنقل ولا للجهود المضنية في صيف العراق اللاهب.
يقول أحد المفكرين الغربيين (إن ما جرى في كربلاء كافٍ لكي يحدث في قلب أكثر الناس تهاونا في الامور؛ حماسة وحزنا وهيجانا شديدا؛ وان تتعالى الروح بالكمال بحيث تستهين بالألم والموت)، لذلك فإن إحياء هذه المناسبات والتخطيط لاستثمارها بشكل أمثل يحقق الأمور التالية:
أولا: شحذ الهمم والنفس بالمعنويات، لأن الإنسان بحاجة بين فترة وأخرى إلى الغذاء الروحي لمواجهة المشكلات والتحديات والصعاب، وهذه المناسبات وخاصة عاشوراء واربعين الامام الحسين (ع) تعتبر محطة كبرى مفتوحة للتزود بالقيم والمثل والنبل، بما يخدم مسيرة التقدم والتطور والرقي ليس على مستوى العراق فحسب، بل على مستوى شعوب المنطقة والعالم اجمع. فالحسين كان ولا يزال مدرسة لتعليم الانسانية القيم السامية والمثل العليا في محاربة القهر والاستبداد والطغاة والظلم والظالمين، لذا نرى الحسينيين على مر التاريخ القديم والحديث يتقدمون صفوف المضحين والمقارعين للسلطة الظالمة، لأن روح الحسين تتحرك في دمائهم وتدفعهم في اتجاه الصواب دائما، ونرى ذلك واضحا في مواقف معاصرة مثل فتوى الجهاد الكفائي بمواجهة داعش، وفي مواقف حزب الله اللبناني والحوثيين والمقاومة في العراق في مواجهة الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين.
ثانيا : حفظ الهوية، فقد كانت مهمة الامام الحسين وثورته تهدف للحفاظ على الهوية الاسلامية، التي حاول طمسها الأمويون بالتزييف والترهيب، من هنا كان احياء منهجها خطرا على استبداد الامويين والعباسيين على حد سواء، وكل الظالمين على مر العصور، ولسنا ببعيدين عن آخرهم من البعثيين، الذين كانوا يواجهون المناسبات الحسينية بقسوة يدفعها خوفهم منها، بممارسة اقسى انواع القتل والتنكيل والتشريد بحق الزوار وممارسي الشعائر، ولكنهم لم يفلحوا في ثني الأمة وأبعادها عن الحسين، فالحسين يمثل هوية هذه الأمة، وإحياءً لوجودها وحفاظا عليها وتكريسا وترسيخا لواقعها ومستقبلها.
ثالثا : البعد الحضاري، فالمناسبات الحسينية حركة اجتماعية، يمثلها الغنى الثقافي والاحتكاك بين مختلف الشعوب وتلاقي الحضارات، واثراء التراث الفكري والاسلامي واحياء جوانبه المنيرة.
فالشعائر الحسينية تعبير عن الرأي العام المفضي للإصلاح، والممارسة والتظاهرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاعلامية المفتوحة لتأشير مواطن الخلل في بناء الانسان وكيان الدولة فهي بمثابة العقد الاجتماعي بين مختلف الاطراف الانسان والمواطن المؤمن الواعي واجهزة الدولة ومؤسساتها، لذا يجب تنميتها وتعميقها بالشكل الذي يمنحها دورا اكثر قابلية وفاعلية.    
رابعا : الأثر التنموي، فالمناسبة بما تمثله من جذب لملايين الزوار من مختلف الاقطار والاصقاع تشكل اثرا ايجابيا وقطاعيا على حركة الحياة في مختلف المجالات، خصوصا مجال السياحة الدينية، كما أنها تعتبر محركا أساسيا ورئيسا سوف يحتكم اليه الاقتصاد العراقي، الذي سيتنامى لا محالة في مجالات النقل الجوي والبري وحتى البحري مستقبلا، وفي مجالات التنمية والتبادل الثقافي والتجاري والاستثمار الخارجي.
لذا فإن المناسبة على الصعيد الاقتصادي فرصة لامتصاص البطالة المتفاقمة، وأرض خصبة لتوفير العملة الصعبة ومورد يضاهي بإمكانياته موارد الحج والعمرة على سبيل المثال، وعليه فهي استثمار للطاقات وتوفير للوقت، وليس كما توصف من قبل بعض الاقلام التي لا تنظر بعين الحقيقة بأنها» تعطيل للطاقات واضاعة للوقت».