د. نازك بدير
الحلقات الخمس المتشابكة في شعار الألعاب الأولمبيّة يشير اختيارها إلى الاستمراريّة، وتعالق الكائنات البشريّة، واتّحادها، وتعاونها في المجتمعات، وأنّ جميع الناس مرحّب بهم” من دون النظر إلى أعراقهم وألوانهم”، على حدّ قول روبرت بارني المؤرّخ الرياضي الأميركي.
لكن ما تعرّض إليه لاعبو” جنوب الحدود غرب الشمس” في أولمبياد باريس 2024 ينافي هذه المقولة، ويعرّي ما يتبجّح به الغرب، وفرنسا على وجه التحديد التي ترفع شعارات” الحريّة والعدالة والمساواة”. واجهت إيمان خليف حملة شعواء، من لدن النساء قبل الرجال، إذ انسحبت الإيطاليّة أنجيلينا كاريني بعد اللكمة الأولى التي وُجّهت إليها من خليف، وذلك بعد مرور 46 ثانية فقط.
بعدها، شنّت وسائل إعلام أجنبيّة هجمة غير أخلاقيّة عليها، مطالبة اللجنة الأولمبيّة باستبعادها. وصل الجدل حولها إلى مجلس الأمن، حيث أشار ممثّل روسيا إلى أنّها “رجل”. واستغلّ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب هذه القضيّة لإثارة المزيد من الجدل وسط قاعدته الشعبيّة( الدفاع عن القيم التقليديّة) وكذلك رئيسة الوزراء الإيطاليّة جورجيا ميلوني التي وصلت إلى السلطة بدعم من اليمين (معارضة تغيير القيم الاجتماعيّة).
إثر هذه الحملة المنظّمة، انتفض بعض العرب للدفاع عن الملاكمة الجزائريّة، بيد أنّ” عِقَد الذكوريّة” طفَت على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي بعض النشرات الرياضيّة، من باب التضامن معها:” امرأة بألف رجل”! هذا العنوان بحدّ ذاته يضاعف الإساءة إلى خليف. المرأة، إذا كانت قويّة، فقوّتها نابعة من داخلها، من كفاحها، وجلَدها، وما خبرته في الحياة، وما تعلّمته وتتعلّمه، لا لأنهّا” أخت رْجال”. هذه العبارة النمطيّة تكرّس النظرة الشرقيّة التقليديّة التي ترى المرأة القويّة من ضلع الرجل، ووجودها ضمن هذا الإطار الصلب رهْن بكونها “أخت فلان أو بنت فلان”، وكأنّها مخلوق ناقص، تحتاج إلى وجود” الذكر” لتثبِت تمامها.
مع قرب انتهاء الربع الأوّل من الألفيّة الثالثة، لا يزال البعض يعيش ويتنفّس بحسّ المسؤول عن قوّة المرأة، وكأنّه يمتلك مفاتيح تحكُّم خاصّة، بل قُل تكنولوجيا من صنعه هو تتيح له -بموافقتها- دوام السيطرة عليها.
ينبغي القول، إنّ المرأة الأولمبيّة (وغير الأولمبيّة) لا تحتاج إلى هذه الأصوات الرجعيّة، المسيئة، فهي “كاملة”، وتفيض كالنهر مع كل مباراة. إيمان خليف كانت في حلبة ملاكمة، وليست على منصّة رقص.
كادت الحملة المستعرة عليها أن تكون ضربة قاضية للحلقات الخمس لولا أن تمكّنت هذه البطلة الماسيّة من التصدّي لها بثبات وذكاء وتركيز وإصرار وصبر ويقين وطموح وإرادة يستحيل كسْرها، منتزعة الميدالية الذهبية أمام منافستها الصينيّة يانج ليو في المباراة النهائيّة
( 5 - 0). سيعود الرياضيّون والمدرّبون والمشّجعون إلى أوطانهم حاملين” موزاييك مشاعر” استعدادًا للدورة المقبلة من الألعاب الأولمبيّة في لوس أنجلوس 2028. وسيذكر التاريخ أنّ ثّمة امرأة جزائريّة سطّرتْ اسمها، وحملت شعلة جميلة بوحيرد جديدة، شعلة المقاومة وعدم الاستسلام للهيمنة وللغطرسة وللاستعلاء. وستبقى شعلة الجنوب متّقدة في الشمال وفي كلّ مكان، لتمنح القدرة على مواجهة الاحتلال، مهما اختلفت وجوهه، وتعدّدت
مسميّاته.
كاتبة وباحثة لبنانيّة