شيءٌ عن السياسة ومديح الحماقة

آراء 2024/08/18
...

  أ.د عامر حسن فياض


في سياسة عالم اليوم لا نستغرب إذا كان ذم الحمقى رذيلة! لأن مديح الحمقى أصبح فضيلة! وعن هذا المدع يحفظ لنا التاريخ قصصا وكتبا اخترنا منها كتاب عنوانه (مديح الحماقة ومدح الجنون والثناء على الطيش)، الذي نشر في باريس العام 1511م للقس الهولندي (ايرازموس).

انتهى الهولندي (ديزيدروس إرازموس 1469 – 1536م) الذي يعني اسمه (الحبيب المرغوب فيه)، انتهى إلى الرهبنة ورسم قسيساً عام 1492م، وبقي عضواً في الرهبنة الاوغسطينية، على الرغم من إرادته حتى التمس في أواخر حياته من البابا ليون العاشر أن يحرره من قيود هذه الرهبنة فاستجاب له البابا ووافق على التماسه. 

إن نقد إرازموس لأخطاء الكنيسة وسخريته القاسية من رجال الدين أسهمت في تفجير ثورة الإصلاح الديني اللوثرية في عصره، بكل ما تنطوي عليه تلك الثورة من نتائج تقف في مقدمتها النتائج 

السياسية.

ويعد إرازموس أحد أشهر مفكري عصر النهضة، ومن أوائل وكبار رواد الحركة الإنسانية، وأبرز من عمل على تكييف أفكارها مع المعتقدات الدينية المسيحية، وحاول التقريب بين الكنيسة الكاثوليكية ودعاة الإصلاح الديني، الذي كان مارتن لوثر أشهرهم في عصره، مما أثار خوف العديد من رجال الدين بل 

وأفزعهم.

 تنقل إرازموس في أوروبا وأتاحت له زيارته لإنكلترا عام 1499م أن يتعرف فيها على توماس مور الرمز الآخر للحركة الإنسانية المسيحية، والذي كان أصغر منه سناً، لكنه أثار إعجابه بما كان يتمتع به من قدرة فكرية، ومكانة سياسية سمحت له بتقديمه إلى ولي العهد، الذي أصبح لاحقا الملك هنري الثامن. 

وكان من نتائج تلك العلاقة تأليف ازاموس لأحد أشهر كتبه والموسوم (مديح الحماقة / مدح الجنون / الثناء على الطيش) أثناء إحدى زياراته المتكررة إلى انكلترا، والذي شجعه صديقه مور على كتابته، فأنجزه وهو ضيف عليه في بيته وأهداه إليه، ثم نشره في باريس عام 1511م، وطبعت منه في حياته أربعون طبعة وتُرجم إلى اثنتي عشرة 

لغة. 

وينطلقُ كتاب إرازموس (في مديح الحماقة) من مشهد أساس هو مشهد (يوم الحشر) الذي يقف فيه جمع من الناس الحمقى أمام المحكمة الإلهية الكبرى ليصفوا لها الأسلوب الأحمق، الذي عاشوا به حياتهم، بزعم أنه الأسلوب المسيحي الأمثل، حيث يرد عليهم السيد المسيح صارخا بهم : (ويل لكم كتابا ومرائين لقد تركت لكم وصية واحدة هي: أن يحب أحدكم الآخر ولم اسمع أيا منكم يدافع عن نفسه، مؤكداً انه نفذ هذه الوصية بصدق وإخلاص). 

وكان من العبارات الساخرة في هذا الكتاب : (لا يغرنك شخص متفلسف أو رجل دين يطيل لحيته، ليعطي الانطباع بالحكمة، فالماعز عنده لحية أيضا)، وقوله لرجال الدين : (لقد جعلتم من الدين سيركا ملونا، مزامير وأجراسا)، وهو ما كان على حساب العمق الإنساني والروحي للدين ويدور موضوع الكتاب حول شخصية نسائية يونانية خيالية ابتكرها المؤلف واسماها (الحماقة أو الجنون)، وقال إن صديقاتها المقربات هن: (الإنانية، التملق، الكسل، النسيان، المتع الحسية، الجنون، الخلاعة، التبذير، النوم كالموتى)، حيث تحاول هذه (السيدة الحماقة) أن تمدح نفسها معللة ذلك بالقول : (فأنا الحماقة أمدح نفسي وما أفضل من أن تمدح الحماقة نفسها وبأسلوب وقح.. لذا فسأتبع القول القديم: (من لا يملك صاحباً يمدحه فليمدح نفسه)، وتسخر (السيدة الحماقة) من واقع الناس الذين تقول انهم يعيشون حياتهم كلها على أساس الحماقة ليس فقط لأن الحماقة ضرورية لاستمرار الإنسان والحياة فقط، بل ولأن الحماقة أيضا ضرورية حتى لوجودهما 

أصلا.

وجوهر الفكرة العامة للكتاب هي (حكمة الحماقة وحماقة الحكمة): حيث إن الجنس البشري بأسره يدين بوجوده للحماقة التي بفضلها ينجب الرجل وبالحماقة تتقبل المرأة عذابات الحمل ومخاطر الولادة، وتتحمل متاعب تربية الأولاد وخدمة الأسرة والحماقة هي الشيء الوحيد، الذي يساعد على استمرار الصحة والشباب وبالتالي السعادة مما يبعدك عن العجز ولا يوجد أمر عظيم ولا تافه إلا وتدخل فيه الحماقة، أليست حرب التجارة أساس كل شركة معروفة، وما هو الأكثر حماقة من أن يعلم الطرفان أنهما سيخسران في هذه الصفقة، ومع هذا يستمران فيها؟ أن الفلاسفة يقولون إن من الحماقة أن تعرف الصواب ثم تفعل الخطأ، ولكن هذا هو ما يفعله البشر كلهم، فلماذا يرون هذا سيئا. والحماقة هي صاحبة الفضل في إسعاد الناس دون كلفة، بل بمجرد الاقتناع وهناك الذين يطلقون على أنفسهم عادة (المتدينين والرهبان)، وهم بعيدون كل البعد عن الدين ولا يوجد من هو أكثر انتشاراً من هؤلاء الذين يقدمون لنا بأشكال من العنف والجهل والوقاحة حياة الرسول المسيح (ع) وبمنطق هؤلاء الحمقى، هم يختلفون عن العامة، بل لا بد أن يكونوا مختلفين، ولكن المسيح يقاطعهم في تفاخرهم الذي لا ينتهي. وتمتد سخرية الكتاب لتشمل حماقات البشر كلهم الممثلون والتجار والكتّاب والفلاسفة والملوك، وكان للكنيسة الكاثوليكية وبعض عقائدها واغلب طقوسها التعبدية، النصيب الأكبر من سخرية إرازموس التي طالت رجال الدين كلهم حتى البابا نفسه الذي قال عنه الكتاب: انه يرفع السيف باسم المسيح، الذي جاء مبشراً بالسلام وداعيا إليه وتسأل: ألم يتحول المسيح ذاته وهو الذي يمثل حكمة الأب بطريقة معينة إلى أحمق، حين أراد أن يُخلص البشرية من حماقاتها واتخذ صورة بشرية؟ وحين تحول إلى خطيئة ليمحو الخطايا غير أنه لم يشأ أن يمحوها إلا بطريقة حماقة الصليب؟. 

حرص إرازموس على أن تكون سخريته من الكنيسة ورجال الدين مقترنة ومدعومة بتأكيده على تمسكه بالإيمان الديني وبالكنيسة التي كان هدف إصلاحها كامنا بعمق وواضحاً بجلاء في هذه السخرية، التي حرص صاحبها على ألا يصبها على الدين بقدر ما يصيبها على المتلاعبين بالدين، والمنتفعين به من رجال الدين والسياسة معا، دفاعا عن الدين وحماية له من أن يجرده هؤلاء من صدقه ونقائه، وينزعوا ما فيه من دعوة للخير والصلاح 

والسلام. 

لقد كان رجال الدين أعداء إرازموس وآفة حياته بقدر ما كان هو عدوهم وآفة حياتهم، إذ كان يرى فيهم الأعداء والألداء للمعرفة والدين الصحيح والتقوى الصادقة، وكانوا يعدونه العدو الأخطر على مصالحهم 

وامتيازاتهم. 

لذلك وعلى الرغم من الطابع الخيالي للكتاب، وتلقيه من البابا ليو العاشر بالقبول، ووصفه له بأنه كتاب طريف ولكن غيره لم يكونوا مثله، فقد صدر أمر ملكي في فرنسا بمنع الكتاب وألقي القبض على مترجمه إلى الفرنسية وأحرق بالنار.