معارك الفكر والسياسة في العراق

آراء 2024/08/19
...

 ابراهيم العبادي


اشتد الجدل في العراق بشأن التعديل المزمع لقانون الاحوال الشخصية لعام 1959، كان يمكن أن يكون هذا الجدل نافعا ومفيدا لو اقتصر على موجبات ومسببات الحاجة إلى التعديل، وضرورة معالجة مشكلات اجتماعية تخص الأسرة العراقية وحقوق النساء والأطفال والأزواج بعد ما يقرب من 65 عاما على صدوره، وبما يحقق العدالة والانصاف ويلبي المتطلبات النفسية والاجتماعية للأفراد، وكان يمكن أن يكون مسار التعديل هادئا ومعقولا لو جاء في سياق الاستجابة لتطورات المجتمع وتنوع سياقات الحلول والمقترحات القانونية الناظرة لواقع الدولة والتحديات المختلفة، التي تواجهها ومنها تحديات التشريع والتقنين لمجتمع متعدد الطوائف والجماعات، حيث تتعدد المرجعيات الدينية والعرفية والثقافية وتسعى كل جماعة لتوكيد خصوصياتها مستفيدة من النصوص الدستورية، بأزاء ذلك يذهب شطر من العراقيين إلى الشك والحذر من كل خطوة لتشريع جديد أو مقترح قانون يقدم عليه حزب نافذ أو مجموعة برلمانية متضامنة، سبب ذلك يعود إلى تجذر الصراع الايديولوجي في العراق وتصلب الثقافة الاجتماعية والسياسية بين جميع الاتجاهات الفكرية المختلفة، فقد أيقظ مشروع تعديل قانون الاحوال الشخصية صراعا قديما بين التيار العلماني والتيار الاسلامي، وسرعان ما شحذ الطرفان اسلحتهما بلا ترو، ولم يعد الموضوع اختلافا على مضمون قانون أو فقرات تشريع، بل اختلاف شامل في الرؤية، بين من يتحدث عن المدنية والوطنية والحداثة ليقابله التيار الاسلامي فيتحدث عن الفقه والشريعة والمصلحة والحرية وحقوق الأكثرية دستوريا، ويتعمق الصراع، ليتحول إلى معركة ثأرية بين الجانبين، تستعيد معارك الفكر التاريخية التي شهدها عالم المسلمين في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين، وفي العراق تحديدا في النصف الثاني من القرن العشرين بين النجف (مرجعية السيد محسن الحكيم ) وسلطة الجمهورية بزعامة عبدالكريم قاسم، وهي المعارك التي ُوسِمت بانها بين الأصولية الاسلامية والعلمانية أو بين السلفية الدينية والتحديثية المتغربة، أو بين التقليدية الاسلامية والليبرالية والماركسية. بدون تمهيد انطلق صراع مؤجل أو ظل مكبوتا بين هذين الاتجاهين، تأجل بسبب جملة تحديات أكبر كادت تطيح بالوحدة الاجتماعية ووجود الدولة، ثم ما لبث إن انفجر بعد الانفراج النسبي، متلبسا بلباس مطلبي أو كان ينتظر اي فرصة للتعبير عن نفسه، احتجاجات تشرين 2019 مثلت إحدى هذه المعارك، وهي في جوهرها احتجاج على من هيمن على السلطة خلال هذه البرهة الزمنية فكريا وسياسيا وثقافيا، لقد وجد الطرف المناوئ لمن في السلطة فرصته في تحريض وتحشيد الشارع، مستفيدا من سلسلة أخطاء جسيمة ارتكبها تيار السلطة ودخل في معارك كثيرة بدون أولويات ممنهجة، فسمح لمناوئيه أن ينالوا منه، قبل أن تطل معركة الأحوال الشخصية مجددا وهي معركة حساسة جدا، لأن في عمقها تكريسًا لمنظور ورؤية للفرد والأسرة من منظار ديني شرعي اجتهادي، لا يقيم شأنا للدولة ونفوذها وقوانينها وغاياتها الاجتماعية، بل يرى تقدم الفقه الشرعي على ما سواه، على العكس من ذلك طالب التيار العلماني بان تكون الدولة هي صاحبة الحق في احتكار التمثيل والتقنين والمواجهة المباشرة، ولابد من تكييف الفقه الفردي ليكون تحت مظلة الدولة، ومستجيبا لاشتغالاتها وتقديراتها لمصلحة الوحدة والهوية الاجتماعية. المعركة ليس بين الفقه والقانون، كي يتمسك الاسلاميون بالفقه في مقابل تمسك المدنيين بالقانون، مرجعية الإسلاميين الأهم هي مرجعية السيدين الصدر والسيستاني، وكلاهما يصران على ان يكون قانون الدولة غير معارض أو ناقض لثوابت الاسلام وهذه ما غفل عنه الاسلاميون، فعند السيدين هناك سعة كبيرة يمكن أن تستوعب الآراء الاجتهادية، بما يجعل قانون الدولة مرنا، مستجيبا لثوابت الإسلام ولا يضعه في مقابل القانون الذي يريد المدنيون الاحتكام إليه وحده.

المأزق الذي يعاني منه الطرفان هو في رغبتهما في الاعتماد على منطق القوة في فرض رؤيتهما، دونما التماس لشرعية الاقناع والحوارات العميقة والاحتكام إلى الآليات الديمقراطية وحق الأكثرية مع مراعاة مصالح الأقليات.

في هذا التقابل نخسر إيجابيات الحوار الجوهري في صلب القضايا المطروحة لننشغل في تفسير نوايا ودوافع المهاجمين والمدافعين، وننسب كل جهة إلى مرجعيتها الدينية أو الشعبية، ففيما يتحدث التيار المدني عن رغبة تيارات الاسلام السياسي في فرض مؤسسات موازية لمؤسسة الدولة بما يقود إلى تطييف المجتمع، وانه نوع من استقواء فئة على فئات اخرى،. يرد الفريق المقابل بأن النقاش ليس في تفاصيل مشروع التعديل، بل هو معركة لإثبات قوة الفريق الخصم ومتبنياته الليبرالية، ومرجعيته الثقافية المناوئة للإسلاميين، ومن الواضح أن انحراف الحوارات والمساجلات عن أصل الموضوع، وانفتاح أبواب المعركة على مصراعيها بين التيار الديني والتيار اللاديني، يؤشر إلى سوء فهم عميق بين الأطراف المختلفة ورغبة في تصفية الحسابات على حساب اهتمامات اجتماعية واقتصادية وأخرى أمنية، لا تزال تشكل أولويات وهموما شعبية ضاغطة، ولذلك ينظر إلى ما يجري من صراعات، على أنها معركة في توقيت خاطئ وعودة إلى زمن مضى، كان ممكنا الاستفادة من دروسه والاحتراز من تكرار فصوله، فمعظم المعارك من هذا النوع تستنزف القوى والطاقات الاجتماعية ولا تحقق مكاسب ذات مغزى في معركة التحديث والعصرنة وتجديد جوانب التراث الحيَّة وتوظيفها في مشروع النهضة. العراق يحتاج إلى مرحلة تهدئة طويلة بين التيارات والقوى السياسية والحزبية والاجتماعية ليتغلب على تهديدات خطيرة، في مقدمتها بتقديري، التهديد الذي تشكله العقلية الريعية الاستحواذية، وثقافة الفساد المشرعن، والتخلف الاجتماعي الذي يعيق تطوير وتنمية البلاد، ووقف زحف جيوش العاطلين، علاوة على الكسل والبلادة الادارية؟ والثقافة المانعة من تطوير وعقلنة قيم المجتمع نحو الإنتاج والادخار والظفر بمعركة الحضارة، فهذه هي القنبلة الموقوتة التي تهدد حاضر البلاد ومستقبلها.