علي رياح
تحتفظ كرة القدم بمتعتها وديناميتها وسحرها، بفعل قدرتها على المواكبة في الشكل كما في المضمون. وهي بكل هذه القدرة على أن تبدّل جلدها، إنما تحقق لنفسها ميزة الاحتفاظ بالإثارة والاستقطاب وفي التأثير النفسي والمعنوي على مدى عقود، ويمكن القول، قرون من الزمن
وفي ظل هذا الاتّساع الذي نعيشه في يومنا هذا، على صعيد الرصد الإعلامي لتفاصيل ما يجري في الميدان وفي الكواليس وفي كل مكان عام من أثر لما تفعله كرة القدم، يتبادر إلى الذهن سؤال يتعلّق بوصفٍ صحفي يمكن أن يُكتب عن مباراة محلية قبلَ سبع وتسعين سنة؟
كنت في كل مسعى للبحث عن امتدادات التغطية الصحفية لمباريات الكرة، أبحث عن مصدر يقدم لي صورة لما يمكن أن يختطـّه قلم صحفي عن مباراة على أعمدة الصحف، وقد وجدت ضالتي في صحيفة (العراق - آذار 1927) عن سباق بين فرقتي المدرسة الثانوية ومنتدى التهذيب لإحراز الكأس الفضي السنوي، ومفردة (سباق) تعني مباراة في اللغة الصحفية السائدة في ذلك الزمان، و(فرقتي) ترادفها الفريقان، ثم يأتي الوصف الذي كتبه رائد الصحافة الرياضية الأبرز محمود الحمامي حاملاً تعابير وجملاً ستجد فيها الكثير من الغرابة في منطوق صحافة اليوم، وهذ أمر منطقي، فالحمامي يتحدث بلغة عمرها يربو على القرن يوم كانت الكتابة في الشأن الرياضي تعيش مخاضها الأول، ولم تكن هنالك حِرفة نقدية صحفية بمقومات وأدوات وصيغ شائعة أو مُتَفق عليها بالمعنى الذي نشهده في عصرنا هذا.
يقول بالنص :(وعندما حان الوقت انتظم اللاعبون في أماكنهم وفجأة حوصر هدف المدرسة الثانوية حِصاراً عنيفاً) و(اخترقت الكرة لأول مرة صفوف فرقة الثانوية الذين صار دأبهم الاجتماع حول الكرة فأدهش حارسَ المرمى أزيزُها عندما مرّت به كأنها السهم، فعَلا هتافُ الفئة المتحيّزة للفرقة).. ثم يجري الوصف هكذا.. (مُزّقت الكرة على أثر قذيفة من قبل اللاعب النشيط صبري أفندي انطوان على مقربة من هدف الثانوية فاستُبدلت الكرة بغيرها بعد أن هدأ اللعب برهة).
وبعد أن يمضي الحمامي في وصفه النادر لمجرى (السباق) يقول: (وهكذا أسفرت النتيجة عن فوز فرقة المنتدى وقد كنت أرقبُ المتفرجين في غضون تلك المدة فهالني ما كان يصدر عن البعض من الصراخ الشديد والكلام المُر الذي كانوا يقذفون به فرقة المنتدى والتي تسلّمتْ الكأس وأخذتْ تقوم بمراسيم أفراحها وعلّق أفراد الفرقة الوسامات الفضية التي كُتب عليها - كرة القدم الكأس لسنة 1927 ثم غادر ساحة الملعب معظم لاعبيها بسيارة اخترقت صفوف المتفرجين ببطء).. إلى أن يصل إلى خاتمة الوصف التفصيلي ليكتب عمّا جرى بعد ذلك في الملعب: (وهنالك رأيت بأمّ عيني فريقاً أخذ يرجم السيارة بالحجارة وهذا لما يؤسَف له).
في زمن القنوات الفضائية والاستوديوهات التحليلية ووسائل التواصل الاجتماعي ومُعطيات الخبراء والمحللين، لا يعدو ما كتبه الرائد الحمامي كونه لغة (مُنقرضة) لا وزن لها في مِعيار اليوم.
والمؤكد أن وصفاً كهذا كان ابتكاراً إبداعياً ربما لم يسبقه إليه أحد يوم كان كثير من الناس يجهل كرة القدم مضموناً وممارسة، بينما كان شعور الرفض لهذه الرياضة الوافدة التي (تُلهي الصغار والشبان عن الاهتمامات الحياتية الأخرى الأكثر وجوباً واستقامة) يجتاح كثيراً من العائلات والمجتمعات العراقية.