هل اقترب النبي «ص» من الشّعر؟

منصة 2024/08/27
...

  شميران أوديشو

يركز كتاب «الشعر في حضرة النبي» للدكتور شاكر كتاب جهوده على الكشف عن العلاقة المباشرة بين النبي محمد (ص) والشعراء، وما يحفظه منه وما يعجبه وملاحظاته ووصاياه بشأنه والكشف عن علاقته الشخصيّة بالشعراء، والتي اتخذت اشكالا متنوعة تصل حد التناقض، فهناك شعراء التفوا حوله وآزروه، ومنهم من قاتله وهجاه وحاول اغتياله، وبين هذين النمطين تتراوح الاشكال الاخرى من العلاقة مع الشعراء.

ومن الضروري الاشارة إلى اشكالية المصادر والمراجع في التهيئة لهذا البحث فلقد أنقسم الدارسون للأدب الإسلامي عامة ولمرحلة صدر الإسلام خاصة بين معسكرين أحدهما ينطلق من تقديس واِعجاب مسبق، وامتازت آراء باحثيه بانحياز تام دونما النظر إلى اية سلبية، ونحن نتحدث عن الأدب لا عن الدين، وكأنهم اصلا تكلفوا في كتابة بحوثهم بأعمال الدعاية والترويج، والمجموعة الثانية جاءت أصلا تتأبط شرا وانطلقت من تبنيها مواقف مسبقة ضد الدين الإسلامي وضد سياسة الرسول (ص) ومواقفه، وفي الحالتين جاءت النتائج ليست أدبية علمية انما خطابية تحمل أثقال النفس السياسي.
وفي باب التمهيد يوضح الكاتب العلاقة بين الإسلام والشّعر وتفسير لمصطلح الشّعر الإسلامي، هل هو الشّعر الذي قيل في عصر صدر الإسلام أم هو الشّعر الذي يحمل رسالة فكريّة مضمونها الإسلام ومبادئه وعقائده؟
إن الاشكال يكمن في أن الشّعر الذي قيل في عصر صدر الإسلام كان إسلاميا من حيث المضمون، كما أن الشّعر الذي قيل في العصور اللاحقة، وما زال يحتوي الكثير منه مضامين إسلامية ويبشر بالإسلام وأفكاره ورسالته. ولتوضيح علاقة القرآن بالشّعر يؤكد الكاتب أن القرآن الكريم قد حرص مراراً على دفع تهمة الشّعرعن آياته وصفة الشاعر عن الرسول. وعمل المفكرون المسلمون العرب على تنزيه القرآن من أية صلة بالشّعر والشّعراء، مثلما توصلوا في كتاباتهم الحديثة إلى تعريف أن «القرآن ليس شعرا، ولا نثرا فنيا، بل هو قرآن» وعمل على توحيد لغة العرب بعد أن كان الشّعر العربي قبل الإسلام قد مهد تمهيدا واسعا لتوحيد لغة العرب ووضع الأسس الراسخة لها، وحين جاء القرآن في مكة، ومن ثم المدينة وانتشر في الجزيرة أعلن انتصار لغته التي هي في الأساس لغة ترفعت عن عيوب اللهجات وتنزهت مبتعدة عن المحلية والقبلية، وغدت لغة العرب جميعا رغم دخول مفردات عديدة من أصول أخرى سميت فيما بعد «بغريب القرآن».
إن النظرة الموضوعية والمتجردة من الميل العاطفي وضوابط  الانتماء للكشف عن العلاقة بين الرسول (ص) والشّعر تقتضي أن نتوقف في البدء عند مصدرين مهمين، الأول أن الثقافة العربية التي كانت سائدة تلك الأيام تقوم في أغلبها على الشّعر، ومن هنا يمكننا أن نقف على معاني العبارة الشهيرة التي تقول بأن «الشّعر ديوان العرب». والشّعر العربي هو تسجيل حي غير منقطع لعادات العرب ولغتهم العريقة وطبيعة علاقاتهم الاجتماعية وأوضاعهم المعاشية وأحاسيسهم ورؤاهم وتاريخهم بأحداثه الغنية والمتنوعة.
والثاني، كان الشّعر أيضا مجالا للمنافسة والسباقات وتشير المصادر إلى أن الرسول كان يحضر أسواق عكاظ ولقاءات الشّعراء المتنافسين هناك للاستماع إلى أشعارهم ومطارحاتهم، وهذا هو المصدر الثاني في اقتراب الرسول من الشّعر. ولا شك في أن هذه الصلة بهذين المصدرين قد زودته بموهبة التذوق والاحساس بجمال الشّعر وتأثيره وبإمكاناته الكبيرة في ايصال المشاعر والأفكار والرؤى إلى المتلقي. والرسول لم ينتبه على جمال وأهمية الشّعر والخطابة فحسب، بل تأثر أيضا بالخطباء أنفسهم وهم يلقون خطبهم أو قصائدهم فترسخت لديه الرغبة في التأثير في الآخرين خطيبا أو متكلما بعد أن أدرك سر الخطابة وتأثيرها في المستمعين، اذا توفرت القدرة على الالقاء السليم والمتمكن.
يواصل الكاتب في هذا البحث الكشف عن اعماق الصلة بين الرسول والشّعر من حيث معرفته به وموقفه منه، ومن تنوع أغراضه وقدراته على توجيهه وتصويبه. ومن الشّعراء وعلاقته الشخصية بهم ودفعهم إلى كيفية استخدام الشّعر على الوجه الذي يكون معه فاعلا مؤثرا، لكنه أيضا نزيه طاهر من الشوائب التي علقت بالكثير منه فيما سبق، مؤكدا أن الرسول ليس بشاعر، فحين صدع بما يؤمر بالآيات القرآنية الكريمة كان أول رد فعل لقريش أنهم اتهموه بشتى التهم، وفي مقدمتها أنه شاعر، وقد سجل القرآن الكريم هذه التهم وردها.
ومن المعروف أن الرسول قد ترعرع في الأوساط اللغويّة والأدبيّة، ولا بد أنه من جراء ذلك قد اتصل بالشّعر العربي، وقد حفظ منه غير قليل أو في الاقل بقى في ذاكرته ما يعجبه منه، وما كان قد احتاج اليه في سيرته لاحقا للاستشهاد به عند الضرورة. لكنه لم يكن يستشهد بكل البيت الذي يريد ذكره، بل يشير إليه اشارة بعيدة أو يذكر مطلعه فقط، أو يذكر اسم قائله ثم يتولى عنه أحد اصحابه الآخرين تكملة البيت. ولعل في هذا اصرارا يقصد منه تأكيد أنه لم يكن شاعرا وما ينبغي له أن يكون.
ويشير الكاتب إلى طرب الرسول (ص) على الشّعر ولديه اشارات بأنه كان للرسول حداة يحدون له في اثناء سيره للعمرة أو لمعركة ما، مثلما جاء في صحيح مسلم. كما أن هناك اخبارا عن الرسول هي أقرب إلى موقف الناقد الأدبي، منها قوله لأحد الشّعراء «لشعرك اجزى عند قريش من سبعين رجلا مقاتلا» أو «فو الله لهجائك أشد عليهم من وقع السهام في غبش الظلام « انما يكشف عن معرفة عميقة بالأثر البالغ للكلام على العدو في نفوس المشركين، تماما كما تولي الدول اليوم والقادة للأعلام دورا استثنائيا في الصراعات، فما بالك بالشّعر وهو الشّعر الموزون والمقفى أي ذو التأثير الموسيقي الفاعل، والذي كان أحد أهم اسلحة الصراع بين المتخاصمين في الثقافة العربية آنذاك.  ونجد في مواضيع معينة أن الرسول قد نهى عن تداول بعض الاشعار والأبيات لبعض الشّعراء نظرا إلى مضامين معينة تتناقض مع الخلق الإسلامي أو لأسباب أخرى قد تكون سياسية. لا شك أن التغيرات العميقة التي تسبب به الإسلام أدت إلى انشطارعميق في المجتمع العربي ليغدو مجتمعين متنافرين ويصبح الصراع بينهما صراع مصير ووجود. ولقد توجت الفوارق بين المعسكرين بما سببته هجرة الرسول إلى المدينة من صراع بين مدينتين كبيرتين لكل منهما ثقلها الأدبي والسياسي والأخلاقي. والصراع لم يتخذ شكلا حربيا عسكريا فقط، بل امتد سريعا ليشمل الأدب بنوعيه، ولا سيما الشّعر. وانقسم الشّعراء أيضا بين مسلمين دافعوا عن محمد «ص» ودينهم وعقيدتهم، ومشركين تخندقوا وراء عقائدهم السابقة بأديانهم. ومثلما جرت الحروب بين جيوش المسلمين والمشركين وقعت المعارك الشّعريّة بين شعراء المعسكرين.
وفي خضم الصراع استخدم الشّعر سلاحا في المعركة وكانت القصائد تؤدي دورا فاعلا في ساحات القتال أو خارجها، وفي الحالتين فأن المعارك الحربية والمنافسة الفكرية استعانت بالإعلام، ممثلا بالشّعر مغنى من قبل الشّعراء بأشكال تاركة آثارا واضحة في نفوس الطرفين. إن التأثير الذي مارسته الرسالة المحمدية في قلب جزيرة العرب وأعماق ثقافتهم وبنيان انظمتهم الفكرية والعقلية واسع جدا ويحتاج إلى بحوث ودراسات كبيرة.