ذاكرةُ الفرد العراقيّ.. مآلاتٌ وانكساراتٌ مثخنةٌ بالجراح

ريبورتاج 2024/08/29
...

 رحيم رزاق الجبوري


حينما تسأل أي فرد عراقي عما تكتنزه ذاكرته من أحداث ومواقف ظلت راسخة ومتغلغلة في مخيلته ولا تفارقه لغاية الآن، فإنه سيسترجع سريعاً ذاكرته المثقلة ويحيلك حتماً لأيام الحرب العراقية/الإيرانية والثماني سنوات التي عاش فيها مع الموت لحظة بلحظة. وآخر سيسرد لك مآسي السنين العجاف وبؤسها التي مرت على العراقيين ويستذكر بمرارة أيام الجوع والألم والقهر الذي خلفه الحصار الاقتصادي الجائر، وأخرى تئن بوجع من مرارة الفقد الذي طال فلذة كبدها في إحدى الحروب العبثية في هذه البلاد. وغيرها المئات من القصص والحكايات المؤلمة والمفجعة التي أثخنت الذاكرة العراقية بالجراح، وجعلتها ذاكرة تلتحف السواد، وتأبى مفارقته.

صراعٌ وتهميشٌ وعنف
يشير علي عبد الرحيم صالح (أستاذ في جامعة القادسية) إلى أن العراق كان على مدى سنوات مضت ساحة للصراع والتهميش والعنف المجتمعي، فعلى مدى هذه السنوات تصارعت الجماعات الفرعية (المتشددة، والسياسية، والأثنية) فيما بينها من أجل الهيمنة على مقدرات الدولة وثرواتها والحصول على الامتيازات والحقوق على حساب الجماعات الأخرى، ما شكّل تهديداً للهويات الاجتماعية الفرعية، ومدى قدرتها في الحفاظ على بنائها ووزنها الديموغرافي في العراق، وهو ما جعل العراقيين يعانون من انعدام الأمن الاجتماعي والحروب والانقسام المجتمعي، وكانت نتيجته التهجير والقتل والسبي وإبادات جماعية مستمرة".

ذاكرة جمعيَّة
ويضيف صالح: "لذا نتجت عن هذه الانتهاكات والتجاوزات سرديات وذكريات وصور نمطية، شكّلت ما يدعى بالذاكرة الجمعية Collective memory التي هي عبارة عن مخزن الذكريات والصور والمعلومات المشتركة لجماعة ما. فعلى سبيل المثال نجد أن ذاكرة الشيعة ترتبط بالمقابر الجماعية، وذاكرة الإيزيديين ترتبط بحوادث السبي والقتل الجماعي، وذاكرة التركمان ترتبط بمجزرة كركوك، وذاكرة الكرد ترتبط بمجزرة الأنفال والتهجير.. وغيرها، وبهذا فإن هذه الذاكرات الجمعية تحفظ خبرات الجماعة وتثير عاطفتهم وتزودهم بتفسيرات متشابهة عند مواجهة الأحداث الاجتماعية، فضلا عن ذلك تجعلهم يتبنون سلوكيات معينة من أجل الدفاع عن هويتهم وحقوقهم مثل إنشاء جمعيات وأحزاب قائمة على مفهوم الهوية الفرعية".

خطورة
ويؤكد عبد الرحيم في ختام حديثه أن: "خطورة هذه الذاكرات تظهر في عمليات الصراع الاجتماعي، وإثارة مشاعر أعضاء الجماعة، والتمركز حول الهوية الاجتماعية الفرعية بدرجة أكبر من الالتفاف حول الهوية الوطنية، لذلك نشاهد بين مدة وأخرى أن هناك صراعات قائمة على الهوية الاجتماعية.

ذكريات مؤلمة
بلسان وعقل ووجدان شاعرة، تروي سوسن يحيى (شاعرة وكاتبة) بعضاً من الصور المؤلمة التي لا تفارق مخيلتها، قائلة: "بحروف الأمل النابض بزهو الإرادة نسابق بالعزم كل الأحلام، لنكتب قصائد الأمان وهي تستفيق كشرارٍ متبق من بين رماد الألم، لتنير بالأمل آثار العتمة وبقايا الوجع والآهات المخنوقة، لنحارب الظلم والظلام ونزيل تلك الانكسارات والتراكمات التي ما زالت بذكرياتها المؤلمة تطوف حول ذاكرتنا. فما زالت أصوات صفارات الإنذار، تداهم أسماعنا ونحن نختبئ تحت الرحلة المدرسية كلما تباغتنا الغارات الجوية، وألوان تلك الشظايا التي لونت كراسات الرسم كلما طلب منا معلم التربية الفنية منظراً لصور الرعب والدمار، وذكريات اللعب مع بقايا القنابل المتفجرة، وغير المتفجرة التي كنا نلهو بها في ساحة المدرسة، وهدير رصاصات طائشة، تحرمنا من أعز أصدقائنا، وتلك اللافتات السوداء المعلقة على زقاق الانتظار التي لم تشبع نهم تلك المعارك الطاحنة، ومع كل ذلك لم يفارقنا هاجس الإصرار في أيام الحصار؛ لأن الأمل مع العمل هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار والازدهار، والأمان وأن الحرب لا تجلب إلا الدمار والمعاناة للبشرية جمعاء".

دروسُ قاسية
وتضيف يحيى بالقول: "يجب أن نتذكر أن ويلات الحروب علمتنا دروساً قاسية، ونحن نولد بين موت وموت، وأن الحكمة تكمن في الرحمة لحل النزاعات بطرق سلمية من خلال الحوار والتفاوض، وليس من خلال العنف والقتال، وترويع الأبرياء والشيوخ وتجويع وتشريد المهجرين، بلا مأوى جراء هذا الفعل المشين، وأوجاع تدمي قلوب البلاد من ويلات الحروب. فكم من طفل  بات بلا حليب، وشبع من دموع الحرمان، وحُرِمَ من أبيه، وكم من أم ثُكِلت، وكم من حبيبة تعطّرت برائحة الدم يوم عرسها، يا ليت دعاة الحروب كانوا قد تمهلوا، قبل اغتيال زغاريد الأفراح حتى لا تتحول لعويل الصمت في مذبحة الفقد الأليم".

عندما تكون المحنةُ مُنحةً
وفي السياق ذاته يقول إسماعيل الفرحان (كاتب وصحفي): "لم يكن العراق بمعزل عن العالم؛ بل هو قلب العالم بحكم الموقع الذي حباه الله (تعالى) فيه. ما جعله نقطة صراع عالمي، فمنذ فجر الحضارات ونحن نعاني كشعب من تقلبات الزمان علينا، ولم يسترح هذا الشعب، فدوامة الحروب والصراعات لفت لأكثر من مرة عليه وحوله، فما بين ويلات تلك الحروب ومآسيها وانعكاساتها تبلورت الشخصية العراقية، لتكون شخصية مختلفة عن باقي شعوب الأرض، والعلامة الواضحة الصبر والنهوض من جديد وبناء الوطن والخوف عليه من عاديات الزمن، كانت الراجحة في عقلية الفرد العراقي، فبتنا أمة تضعف وتوهن ولكن لا تموت، بل ننهض من جديد ونعمر الوطن ونمضي في هذه الحياة". ويضيف: "يقال إن هناك مع المورثات العضوية أو الفسلجية، مورثات اجتماعية، تجلب بالفطرة فتكوّن شخصية الإنسان، وهذه المورثات الاجتماعية قادرة على بث الروح في المجتمعات الأصيلة، وتعيد تشكيلها بشكل منضبط، لتستقم مرة أخرى على طريق ليس زلقاً بل راسخاً بخطى ثابتة، فتعيد بناء نفسها، ولا تكترث لما تعرضت له من محن ومصاعب، بل بمقدورها قلب المحنة إلى منحة، تستفيد منها لتبيان مدى القوة والصلابة في تكوين مجتمع رصين دأبه لملمة تشتته وتفرقه، ليكون عين القلادة أمام شعوب الأرض الأخرى، يبني ويعلو بنيانه، ويكون نقطة جذب وفنار ضوء".

مشروع حياة
ويمضي الفرحان، بقوله إن: "أصالة شعبنا وطيب هذه الأرض وخصوبتها، والحضارة العريقة والتاريخ الضارب بالقدم، وتلك العجلة المخترعة قبل آلاف السنين وتعليم العالم الحرف كلها مقدمات حضارية، أسست تكوين العالم بأسره فكرياً واجتماعياً لتأتي القوانين التي نظمت حياة الناس والتي مصدرها أيضاً هذه الأرض، وهذا الشعب الذي يسكن وادي الرافدين، ووصف بأنه بلد ما بين النهرين أيضاً (ميزوبوتاميا). وقد يكون الناعور هذه الآلة الخشب التي تتواجد في مدن أعالي الفرات، أو أقصى غرب العراق خير مثال  لمعرفة أصالة شعبنا رغم ما عاناه من كوارث وحروب ومآس، فهذا الناعور هو مشروع حياة فمنه الماء، الذي هو عصب الحياة، ما إن ينخفض نهر الفرات عن مستوى الأرض، حتى يأتي الناعور بكفوفه ليرفع الماء من النهر إلى البساتين والحقول لتزهر وتصبح ناضرة الزهر والثمر".

يمرض ولا يموت
ويختم، الفرحان حديثه مشدداً على قوة الشخصية العراقية، وصلابتها والتي تظهر وتبرز وقت المحن والشدائد، إذ يقول: "هذا هو حال الفرد العراقي، عندما يتعرض للصعاب فإنه يبدع ويحوّل حالة الصراع والضغط، لحالة من التحدي، لإثبات الذات، والمضي نحو القمم غير مكترث، بحجم تلك الويلات والمآسي، فعلى سبيل المثال ومنذ عقود بسيطة مضت، كان هناك حصار خانق تعرض له شعبنا نتيجة حماقة سلطة حاكمة، لكنه لم يقنط أو ييأس بل تواصل في انعاش رئته بصبره وصموده وتجاوز تلك المحنة، ثم تلتها حروب كارثية وعبثية، ثم صفحات من هجمات بربرية لتنظيمات إرهابية عاثت بالأرض فساداً، تريد أن تقتل الأمل في نفوس العراقيين من خلال التفجيرات الإجرامية، حتى باتت أيام الأسبوع تتبعها اليوم الفلاني الدامي. ومع كل ذلك، من أجرم بحق هذا الشعب وظلمه، ذهب إلى مزبلة التاريخ، وبقي هذا الشعب يواصل كفاحه من أجل أن يبدع ويتطور ويرتقي، ويحب الحياة، ويقدم لها عنوانات جميلة زاهية متنوعة، كتنوع شعبه الأصيل من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب".

ذكرى مؤلمة
ظلت عالقة تلك الصورة المؤلمة في ذاكرة التدريسي في الجامعة المستنصرية، د. عقيل عباس الريكان، وألقت بظلالها على مخيلته، لا سيما (مناسبة العيد)، مذ كان طفلاً، ولغاية الآن، إذ يقول: "لا تحتفظ ذاكرتي بشيء جميل عن العيد ابان الحصار الاقتصادي، فأفضل ما حدث لي أن أخي سمح لي بالذهاب معه للسينما، وبما أنني (كأغلب أقراني) لا أملك ملابس للعيد، فالسيدة الوالدة (رهّمتلي) هنداماً؛ مما توفَّر من ملابس إخوتي المتهالكة، لكن بقيت (رطينة) الحذاء، تكرّم بها أحد إخوتي، فقامت والدتي باستخدام كل الحيل لجعلها تناسبني (وملأتها بأنواع الخِرق)؟؛ غير أن البؤس قال كلمته الفصل، فما إن وصلنا لرأس (الدربونة) حتى خرجت الحذاء من قدمي عشرات المرات. شعر أخي ومن معه بالضجر وهم في كل مرة يحاولون مساعدتي في ارتدائها. ثم قرّر أخي أخيراً إرجاعي للبيت، ومن يومها لا أشعر بحميمية وود إزاء صباحات العيد (البائسة)".

تشبّث بالأمل
ويضيف الريكان: "لكن ما يخفّف عني، ويجعلني أشعر بشيء من البهجة، حينما أرى أولادي (وأقرانهم) يمارسون طقوس العيد على أتم فرحة، بعد أن طويت صفحة حكومة الحديد والنار والقمع والاضطهاد والتنكيل والملاحقات الأمنية والحزبية والاعتقالات العشوائية وعسكرة الشعب. فنحن كعراقيين دوماً ما نتشبّث بالأمل، فما من محنة مرّت علينا إلا وواجهناها بتحدٍّ وصلابة. بدءاً من محنة دكتاتورية البعث، مروراً بالحرب الأهلية، ومحاربة التنظيمات الإرهابية والعصابات التكفيرية، فضلاً عن محاولة تقسيم العراق وتفكيكه، فكل هذه المحن تجاوزناها بعزّ وشموخ وانتصار".